ثم تترك السورة الكريمة هؤلاء المجرمين يذوقون العذاب ، وتنتقل إلى الحديث عن مشهد آخر ، عن مشهد يشرح النفوس ، ويبهج القلوب ، إنه مشهد المؤمنين الصادقين ، وما أعد الله - تعالى - من ثواب قال - تعالى - : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا . . . بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
أى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ } ويصدق { بِآيَاتِنَا } الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، أصحاب النفوس النقية الصافية ، الذين إذ ذكروا بها ، أى : بهذه الآيات .
{ خَرُّواْ سُجَّداً } لله - تعالى - من غير تردد { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أى : ونزهوه عن كل ما لا يليق به - عز وجل -
{ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } عن طاعته - سبحانه - ، وعن الانقياد لأمره ونهيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرّواْ سُجّداً وَسَبّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما يصدق بحججنا وآيات كتابنا إلاّ القوم الذين إذا ذكروا بها ووعظوا خرّوا لله سجدا لوجوههم ، تذلّلاً له ، واستكانة لعظمته ، وإقرارا له بالعبوديّة وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول : وسبحوا الله في سجودهم بحمده ، فيبرّؤونه مما يصفه أهل الكفر به ، ويضيفون إليه من الصاحبة والأولاد والشركاء والأنداد وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يقول : يفعلون ذلك ، وهم لا يستكبرون عن السجود له والتسبيح ، لا يستنكفون عن التذلّل له والاستكانة . وقيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن قوما من المنافقين كانوا يخرجون من المسجد إذا أقيمت الصلاة ، ذُكر ذلك عن حجاج ، عن ابن جُرَيج .
ثم أثنى عز وجل على القوم الذين يؤمنون بآياته ووصفهم بالصفة الحسنى بسجودهم عند التذكير وتسبيحهم وعدم استكبارهم بخلاف ما يصنع الكفر من الإعراض عند التذكير وقول الهجر وإظهار التكبر . وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن ، وقال ابن عباس : السجود هنا بمعنى الركوع ، وقد روي عن ابن جريج ومجاهد أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ، ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ، وأيضاً فمن مذهب ابن عباس أن القارىء للسجدة يركع واستدل بقوله { وخر راكعاً وأناب }{[9423]} [ ص : 24 ] .
استئناف ناشىء عن قوله { أم يقولون افتراه الآية } [ السجدة : 3 ] ، تفرغ المقام له بعد أن أنحى بالتقريع والوعيد للكافرين على كفرهم بلقاء الله ، بما أفادت اسمية جملة { بل هم بلقاء ربهم كافرون } [ السجدة : 10 ] من أنهم ثابتون على الكفر بلقاء الله دائمون عليه ، وهو مما أنذرتهم به آيات القرآن ، فالتكذيب بلقاء الله تكذيب بما جاء به القرآن فهم لا يؤمنون ، وإنما يؤمن بآيات الله الذين ذُكرت أوصافهم هنا .
والمراد بالآيات هنا آيات القرآن بقرينة قوله { الذين إذا ذُكِّروا بها } بتشديد الكاف ، أي أعيد ذكرها عليهم وتكررت تلاوتها على مسامِعهم .
ومفاد { إنما } قصر إضافي ، أي يؤمن بآيات الله الذين إذا ذكروا بها تذكيراً بما سبق لهم سماعه لم يتريّثوا عن إظهار الخضوع لله دون الذين قالوا { أإذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض إنَّا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] ، وهذا تأييس للنبيء صلى الله عليه وسلم من إيمانهم ، وتعريض بهم بأنهم لا ينفعون المسلمين بإيمانهم ولا يغيظونهم بالتصلب في الكفر .
وأوثرت صيغة المضارع في { إنما يؤمن } لما تشعر به من أنهم يتجدّدون في الإيمان ويزدادون يقيناً وقتاً فوقتاً ، كما تقدم في قوله تعالى : { الله يستهزىء بهم } في سورة البقرة ( 15 ) ، وإلاَّ فإن المؤمنين قد حصل إيمانهم فيما مضى ففعل المضي آثرُ بحكاية حالهم في الكلام المتداوَل لولا هذه الخصوصية ، ولهذا عُرِّفوا بالموصولية والصلةِ الدالّ معناها على أنهم راسخون في الإيمان ، فعبر عن إبلاغهم آيات القرآن وتلاوتها على أسماعهم بالتذكير المقتضي أن ما تتضمنه الآيات حقائق مقررة عندهم لا يُفادون بها فائدة لم تكن حاصلة في نفوسهم ولكنها تكسبهم تذكيراً { فإن الذكرى تنفع المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] . وهذه الصفة التي تضمنتها الصلة هي حالهم التي عُرفوا بها لقوة إيمانهم وتميزوا بها عن الذين كفروا ، وليست تقتضي أن من لم يسْجدوا عند سماع الآيات ولم يسبّحوا بحمد ربّهم من المؤمنين ليسوا ممّن يؤمنون ، ولكن هذه حالة أكمل الإيمان وهي حالة المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عرفوا بها ، وهذا كما تقول للسائل عن علماء البلد : هم الذين يلبسون عمائم صفتها كذا . جاء في ترجمة مالك بن أنس أنه ما أفتى حتى أجازه سبعون محنَّكاً ، أي عالماً يجعل شُقة من عمامته تحت حنكه وهي لبسة أهل الفقه والحديث . قال مالك رحمه الله : قلت لأُمي : أذهبُ فأكتبُ العلم ، فقالت : تعالَ فالبسْ ثياب العلم . فألبستني ثياباً مشمّرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها .
والخرور : الهُوِيّ من علوّ إلى سفل .
والسجود : وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع .
وانتصب { سُجداً } على الحال المبينة للقصد من { خرُّوا ، } أي : سجداً لله وشكراً له على ما حبَاهم به من العلم والإيمان كما دل عليه قرنه بقوله { وسبَّحوا بحمد ربهم } . والباء فيه للملابسة وتقدم في سورة الإسراء ( 107 ) : { إن الذين أوتوا العلم مِن قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً } ودلّت الجملة الشرطية على اتصال تعلق حصول الجواب بحصول الشرط وتلازمهما . وجيء في نفي التكبر عنهم بالمسند الفعلي لإفادة اختصاصهم بذلك ، أي دون المشركين الذين كان الكبر خلقهم فهم لا يرضون لأنفسهم بالانقياد للنبيء منهم وقالوا : { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] .
وقوله تعالى : { وهم لا يستكبرون } موضع سجدة من سجدات تلاوة القرآن رجاء أن يكون التالي من أولئك الذين أثنى الله عليهم بأنهم إذا ذُكِّروا بآيات الله سجدوا ، فالقارىء يقتدي بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.