وقوله - سبحانه - : { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى . إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى } بيان لبلوغه أسمى درجات الإِخلاص والنقاء .
أى : أن هذا الإِنسان الكامل فى تقاه لا يفعل ما يفعل من وجوه الخيرات ، من أجل المجازاة لغيره على نعمة سلفت من هذا الغير له ، وإنما يفعل ما يفعل من أجل شئ واحد ، وهو طلب رضا الله - تعالى - والظفر بثوابه ، والإِخلاص لعبادته - سبحانه - .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىَ * إِلاّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَىَ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىَ } .
كان بعض أهل العربية يوجه تأويل ذلك إلى : وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يؤتى ماله في سبيل الله يتزكى مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى يعني : من يد يكافئه عليها ، يقول : ليس ينفق ما ينفق من ذلك ، ويعطى ما يعطى ، مجازاة إنسان يجازيه على يد له عنده ، ولا مكافأة له على نعمة سلفت منه إليه ، أنعمها عليه ، ولكن يؤتيه في حقوق الله ابتغاء وجه الله . قال : وإلا في هذا الموضع بمعنى لكن وقال : يجوز أن يكون الفعل في المكافأة مستقبلاً ، فيكون معناه : ولم يُرِد بما أنفق مكافأة من أحد ، ويكون موقع اللام التي في أحد في الهاء التي خفضتها عنده ، فكأنك قلت : وما له عند أحد فيما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها ، قال : وقد تضع العرب الحرف في غير موضعه إذا كان معروفا ، واستشهدوا لذلك ببيت النابغة :
وَقَدْ خِفْتُ حتى ما تَزِيدُ مَخافَتِي *** على وَعِلٍ فِي ذِي المَطارَةِ عاقِلِ
والمعنى : حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي وهذا الذي قاله الذي حكينا قوله من أهل العربية ، وزعم أنه مما يجوز هو الصحيح الذي جاءت به الاَثار عن أهل التأويل وقالوا : نزلت في أبي بكر بعَتْقه من أعتق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما لاِءَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى يقول : ليس به مثابة الناس ولا مجازاتهم ، إنما عطيته لله .
حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي ، قال : حدثنا هارون بن معروف . قال : حدثنا بشر بن السريّ ، قال : حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله عن أبيه ، قال : نزلت هذه الاَية في أبي بكر الصدّيق : وَما لاِءَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة ، في قوله : وَما لاِءَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى قال : نزلت في أبي بكر ، أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا ، ستة أو سبعة ، منهم بلال ، وعامر بن فُهَيرة .
وعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن هؤلاء ، ينبغي أن يكون قوله : إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَى نصبا على الاستثناء من معنى قوله : وَما لاِءَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى لأن معنى الكلام : وما يؤتي الذي يؤتي من ماله ملتسما من أحد ثوابه ، إلا ابتغاء وجه ربه . وجائز أن يكون نصبه على مخالفة ما بعد إلا ما قبلها ، كما قال النابغة :
وقوله تعالى ( وما لأحد عنده ) الآية . . معناه : وليس إعطاؤه ليجزي نعما قد أنزلت إليه بل هو مبتدئ ابتغاء وجه الله تعالى .
وروي في سبب هذا أن قريشا قالوا -لما أعتق أبو بكر رضي الله عنه بلالا- : كانت لبلال يد عنده ، وذهب الطبري إلى أن المعنى : وليس يعطي ليثاب نعما يجزى بها يوما وينتظر ثوابها ، وحوم في هذا المعنى وحلق بتطويل غير مغن ، ويتجه المعنى الذي أراد بأيسر من قوله ، وذلك أن يكون التقدير : ( وما لأحد عنده ) إعطاء ليقع عليه من ذلك لأحد جزاء بعد ، بل هو لمجرد ثواب الله تعالى وجزائه .
وقوله : { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } الآية اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لمَّا أعتق بلالاً قال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده . وهو قول من بهتانهم ( يعللون به أنفسهم كراهية لأن يكون أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين ) ، فأنزل الله تكذيبهم بقوله : { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } مراداً به بعض من شمله عموم { الذي يؤتي ماله يتزكى } ، وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصص للعموم ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله : { وآتى المال على حبه ذوي القربى } [ البقرة : 177 ] ، وقوله : { إنما نطعمكم لوجه اللَّه لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [ الإنسان : 9 ] .
و { عنده } ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازاً في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب ، قال الحارث بن حِلِّزَة :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
كان بعض أهل العربية يوجه تأويل ذلك إلى : وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يؤتى ماله في سبيل الله يتزكى "مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى" يعني : من يد يكافئه عليها ، يقول : ليس ينفق ما ينفق من ذلك ، ويعطى ما يعطى ، مجازاة إنسان يجازيه على يد له عنده ، ولا مكافأة له على نعمة سلفت منه إليه ، أنعمها عليه ، ولكن يؤتيه في حقوق الله ابتغاء وجه الله . قال : و"إلا" في هذا الموضع بمعنى لكن، وقال : يجوز أن يكون الفعل في المكافأة مستقبلاً ، فيكون معناه : ولم يُرِد بما أنفق مكافأة من أحد ، ويكون موقع اللام التي في أحد في الهاء التي خفضتها عنده ، فكأنك قلت : وما له عند أحد فيما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها ... وهذا الذي قاله الذي حكينا قوله من أهل العربية ، وزعم أنه مما يجوز هو الصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل وقالوا : نزلت في أبي بكر بعَتْقه من أعتق ... عن قتادة "وَما لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إلاّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى" يقول : ليس به مثابة الناس ولا مجازاتهم ، إنما عطيته لله ...
عن قتادة ، في قوله : "وَما لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى" قال : نزلت في أبي بكر ، أعتق ناسا لم يلتمس منهم جزاء ولا شكورا ، ستة أو سبعة ، منهم بلال ، وعامر بن فُهَيرة .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما : أن ما لأحد عند الله تعالى من نعمة يجزى بها ، ولا يد يستحق ( الثواب ) بها . لكن إذا أدى نعمة من نعم الله تعالى التي أعطاها إياه لغيره ابتغاء وجهه ، وطلب مرضاته ، يجزيه بفضله ، كأنه كانت له عنده نعمة ، يجزى بها .
والثاني : يحتمل أن يكون صلة قوله : { الذي يؤتى ماله يتزكى } أي يتصدق ، ويتزكى لابتغاء وجه الله تعالى على من ليس عنده نعمة ويد يجازيه بها ، وينفق عليه جزاء لصنيع قد سبق منه في حقه ، كأنه يقول : لا يعطي الزكاة أحدا عن مجازاة ما سبق منه إليه من نعمة ، إنما أعطاه له لا مجازاة ، ولكن لله تعالى خالصا . وفيه دليل ألا يعطي الرجل زكاة ماله من عنده له نعمة أو منة لأنه يخرج ذلك مخرج الإعطاء ببدل . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وما } أي والحال أنه ما { لأحد عنده } وأعرق في النفي فقال : { من نعمة تجزى } أي هي مما يحق جزاؤه لأجلها . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وللتأكيد على خلوص النيّة في إنفاقهم تقول الآية : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) فلا أحد قد أنعم على هذا «الأتقى » ليكون إنفاقه جزاء على هذه النعمة . ...