فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةٖ تُجۡزَىٰٓ} (19)

{ تجزى } تكافأ .

{ فأنذركم } فخوفتكم وحذرتكم .

{ تلظى } تتوقد ، وتتلظى ، وتتلهب .

{ فأنذرتكم نارا تلظى ( 14 ) لا يصلاها إلا الأشقى ( 15 ) الذي كذب وتولى ( 16 ) وسيجنبها الأتقى ( 17 ) الذي يؤتي ماله يتزكى ( 18 ) وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( 19 ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( 20 ) ولسوف يرضى ( 21 ) } .

في الآيات السابقات على هذه كان بيان درجات نفوس من أعطى واتقى وصدق ، ودركات نفوس من بخل واستغنى وكذب ، فكأن هذه- والله تعالى أعلم- فيها نداء إلى الخلق وإعذار للخالق تبارك اسمه : إني أنذرتكم أيها الناس وخوفتكم وحذرتكم نارا تتوهج وتتوقد ، وتتلظى وتتلهب ، فاحذروا أن تعصوا ربكم في الدنيا فتصلوها في الآخرة ! ؛ ولا يصطلى بحرها إلا الشقي ؛ وقيل : يدخلها العاصي والكافر ، لكن الاصطلاء : أن تحيط النار به إحاطة تامة ، فهذا عذاب الكافر ، قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثني شعبة حدثني أبو إسحاق سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلى منهما دماغه ) رواه البخاري ؛ وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي سعيد ، حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا ) ؛ وقوله تعالى : { لا يصلاها إلا الأشقى } أي لا يدخلها دخولا يحيط به من جميع جوانبه إلا الأشقى ، ثم فسر فقال : { الذي كذب } أي بقلبه ، { وتولى } أي عن العمل بجوارحه وأركانه .

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى ) قالوا : ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال : ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) رواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به .

وقوله تعالى : { وسيجنبها الأتقى } أي وسيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى ، ثم فسره بقوله : { الذي يؤتي ماله يتزكى } أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفا فهو يعطي في مقابلة ذلك وإنما { ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي طمعا في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات ؛ قال الله تعالى : { ولسوف يرضى } أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات ؛ وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك ؛ ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها ، فإن لفظها لفظ العموم ، وهو قوله تعالى : { وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتي ماله يتزكى . وما لأحد عنده من نعمة تجزى } ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة ، فإنه كان صديقا تقيا ، كريما جوادا ، بذالا لأمواله في طاعة مولاه ، ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم . . . ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها ، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل ، ولهذا قال له عروة بن مسعود- وهو سيد ثقيف- يوم صلح الحديبية : أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة ؛ فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم ؟ !

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا عبد الله هذا خير ) فقال أبو بكر : يا رسول الله ! ما على من يدعي منها ضرورة ، فهل يدعي منها كلها أحد ؟ قال : ( نعم وأرجو أن تكون منهم ) . وقال الفراء : لم يكن كذب برد ظاهر ، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة ؛ فجعل تكذيبا ؛ كما تقول : لقى فلان العدو فكذب : إذا نكل ورجع عن اتباعه . وكذلك قوله جل ثناؤه : { ليس لوقعتها كاذبة }{[11217]} يقول : هي حق . {[11218]} والزجاج يقول : هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء ، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر ؛ لقوله جل ثناؤه : { لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى } وليس الأمر كما ظنوا ؛ هذه نار موصوفة بعينها ، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى ، ولأهل النار منازل2 .

يقول محقق الجامع لأحكام القرآن : هم المرجئة ، وهم فرقة من فرق الإسلام ، يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية ، كما أنه لا ينفع مع الكفرة طاعة ، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي ؛ أي : أخره عنهم : وقيل : المرجئة : فرقة من المسلمين يقولون : الإيمان قول بلا عمل ؛ كأنهم قدموا القول ، وأرجئوا العمل ، أي أخروه ؛ لأنهم يرون أنهم لو لم يصلوا ويصوموا لنجاهم إيمانهم . اه روى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالا من ماله ) وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي الله عنه .


[11217]:- سورة الواقعة. الآية 2.
[11218]:- نقل هذا القرطبي.