محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ كِتَٰبٗا مِّن قَبۡلِهِۦ فَهُم بِهِۦ مُسۡتَمۡسِكُونَ} (21)

{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون } هذا بيان لضلال لهم آخر ، في جدلهم وخصامهم وتعنتهم . وقد استدل المعتزلة بظاهر الآية في أنه تعالى لا يشاء الشرور والمعاصي . وأهل السنة تأوّلوا الآية بما يلاقي العقد الصحيح . وهو عموم مشيئته تعالى لكل شيء ، الناطق به غير ما آية . ولما كانت هذه الآية وأخواتها من معارك الأنظار قديما وحديثا ، آثرت أن أنقل هنا ما لمحققي المفسرين ، جريا على قاعدتنا في التقاط نفائس ما للمتقدم ، وتحلية مصنفاتنا بها ، فنقول : قال القاشاني : لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى ، افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار . وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان ، بل على سبيل العناد والإفحام . ولهذا ردّهم الله تعالى بقوله : { ما لهم بذلك من علم } إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين ، لا ينسبون التأثير إلا إلى الله . فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره . إذ لا يرون حينئذ لغيره نفعا ولا ضرا { إن هم إلا يخرصون } لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل ، حين عظموهم وخافوهم وخوّفوا أنبياءهم من بطشهم ، كما قال قوم هود{[6475]} { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } ولما خوّفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم ، أجاب بقوله : {[6476]} { ولا/ أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا } إلى قوله :{[6477]} { وكيف أخاف ما أشركتم } انتهى .

وفي ( البيضاوي وحواشيه ( : إن هذا القول استدلال منهم على امتناع النهي عن عبادة غيره تعالى أو على حسنها . يعنون أن عبادتهم الملائكة بمشيئته تعالى . فيكون مأمورا بها أو حسنة . ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة . وهذا الاستدلال باطل . لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن ، لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض ، حسنا كان أو قبيحا . ولذلك جهلهم في استدلالهم هذا . والحاصل أن الإنكار متوجه إلى جعلهم ذلك دليلا على امتناع النهي عن عبادتهم ، أو على حسنها : لا إلى هذا القول : فإنه كلمة حق أريد بها باطل . انتهى .

وقال الناصر في ( الانتصاف ) : نحن معاشر أهل السنة نقول : إن كل شيء بمشيئته تعالى ، حتى الضلالة والهدى ، اتباعا لدليل العقل ، وتصديقا لنص النقل . في أمثال قوله تعالى :{[6478]} { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدا ، ولا تفيده إلا تصويبا وتسديدا . فنقول : إذا قال الكافر ( لو شاء الله ما كفرت ) فهذه كلمة حق أراد بها باطلا ، أما كونها كلمة حق ، فلما مهدناه . وأما كونه أراد بها باطلا ، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله ، توهما أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل ، أن لا يعاقبه على ذلك . لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته .

ثم قال : فإذا وضح ما قلناه ، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه . لأنهم توهموا أنها حجة على الله . فدحض الله حجتهم ، وأكذب أمنيتهم ، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض ، فقال :{[6479]} { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } و { إن هم إلا يظنون } وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير . وذلك قوله تعالى :/ في سورة الأنعام{[6480]} { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ، كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل ، والإشراك بالله ، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال ، بحال أوائلهم . ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلّب وخيال مكذب ، فقال{[6481]} { إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله ، أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله : {[6482]} { فلله الحجة البالغة } ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك . لا لأن المقالة في نفسها كذب . فقال :{[6483]} { فلو شاء لهداكم أجمعين } وهو معنى قولهم { لو شاء الله ما أشركنا } من حيث أن ( لو ) مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة فدلّت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم . بل شاء ضلالتهم . ولو شاء هدايتهم لما ضلوا . فهذا هو الدين القويم ، والصراط المستقيم ، والنور اللائح والمنهج الواضح . والذي يدحض به حجة هؤلاء ، مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم ، هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها . من الأفعال الكسبية . حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف . لأنها اختيارية . يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية . فهذه الآية أقامت الحجة . ووضحت ، لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة ، المحجة . ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة . فلا جرم أن أفهامهم تبددت . وأفكارهم تبدلت . فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه . وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار . وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب . أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا . / وأرشدهم إلى الطريق الوسطى . فانتهجوا سبل السلام . وساروا ورائد التوفيق لهم إمام . مستضيئين بأنوار العقول المرشدة ، إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته . ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة . لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة . لكنها قدرة تقارن بلا تأثير . وتميز بين الضروريّ والاختياريّ في التصوير . فهذا هو التحقيق . والله ولي التوفيق . انتهى .

وقد سبق في آية ( الأنعام ) نقول عن الأئمة في الآية مسهبة : فراجعها إن شئت . وقوله تعالى { أم آتيناهم كتابا من قبله } أي من قبل هذا القرآن { فهم به مستمسكون } أي يعملون به ويدينون بما فيه ويحتجون به عليك . نظير قوله تعالى في الآية الأخرى{[6484]} { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } يعني بالعلم كتابا موحى فيه ذلك .


[6475]:[11/ هود / 54].
[6476]:{6/الأنعام/ 80].
[6477]:[6/ الأنعام/ 81].
[6478]:[16/النحل/93] و[35/فاطر/8].
[6479]:[43/الزخرف/20].
[6480]:[6/الأنعام/148].
[6481]:[6/الأنعام/148].
[6482]:[6/الأنعام/148].
[6483]:[6/الأنعام/149].
[6484]:[6/الأنعام/148].