في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

( فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ )

فلما أن استجاب اللّه له ورزقه من فضله نسي عهده ، وتنكر لوعده ، وأدركه الشح والبخل فقبض يده ، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد . فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على اللّه فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه ، والموت مع هذا النفاق ، ولقاء اللّه به .

والنفس البشرية ضعيفة شحيحة ، إلا من عصم اللّه ؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان ، وترتفع على ضرورات الأرض ، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب ، لأنها تؤمل في خلف أعظم ، وتؤمل في رضوان من اللّه أكبر . والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان ، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق ، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند اللّه باق . وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل اللّه تطوعاً ورضى وتطهراً ، وهو آمن مغبته . فحتى لو فقد المال وافتقر منه ، فإن له عوضاً أعظم عند اللّه .

فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح ، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة ، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل . ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

قيل : نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثرَاءً كثيراً فلمّا جاءه المصدّقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه . وذكروا من قصته أنّه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهاراً للاستغناء عنه حتّى مات في خلافة عثمان ، وقد قيل : إنّ قائل ذلك هو معتِّب بن قشير ، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدّقنّ وما بعده مراد بها واحد وإنّما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته . ويحتمل أنّ ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجىء فيه قصة كما تقدّم آنفاً .

وجملة { لنصدقن } بيان لجملة { عاهد الله } وفعل { لنصدقن } أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف .

والإعراض : إعراضهم عن عهدهم وعن شكر نعمة ربّهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ} (76)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]

يقول تعالى ذكره: ومِن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم "مَنْ عَاهَدَ اللّهَ "يقول: أعطى الله عهدا، "لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ" يقول: لئن أعطانا الله من فضله، ورزقنا مالاً، ووسع علينا من عنده "لَنَصّدّقَنّ" يقول: لنخرجنّ الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا، "وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ" يقول: ولنعملنّ فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم؛ من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل الله. يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله = "فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به"، بفضل الله الذي آتاهم، فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله. "وَتَوَلّوْا" يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله، "وهُمْ مُعْرِضُونَ" عنه. "فَأعْقَبَهُمُ" الله "نِفاقا فِي قُلُوبِهِمْ" ببخلهم بحقّ الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله، ونقضهم عهده في قلوبهم "إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ" من الصدقة والنفقة في سبيله، "وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" في قيلهم، وحرّمهم التوبة منه لأنه جلّ ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى "يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ" وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا...

في هذه الآية الإبانة من الله جلّ ثناؤه عن علامة أهل النفاق، أعني في قوله: "فأعْقَبَهُم نِفَاقا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ".

وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين، ووردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا أسامة، قال: حدثنا محمد المخرمي، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ فَهُوَ مُنافِقٌ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ»...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]

منهم مَنْ أَكَّدَ العَقْدَ مع الله، ثم نَقَضَه، فَلَحِقَه شُؤْمُ ذلك؛ فَبقِي خالداً في نِفاقِه. ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه. وحدُّ البخل -على لسان العلم- مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحياته. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

قَوْله تَعَالَى {بَخِلُوا بِهِ}: اُخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ} إلَى: {الْقِيَامَةِ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ...} الآية. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْقَوْلِ، وَمَا حَكَيْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا، وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة:

الصفة الأولى: البخل وهو عبارة عن منع الحق.

والصفة الثانية: التولي على العهد.

والصفة الثالثة: الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فلما آتاهم} وكرر قوله: {من فضله} تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه {بخلوا به} أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكيد، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر {وتولوا} أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما بالجسد فقط قال: {وهم معرضون*} أي بقلوبهم، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم، بل كان غريزة فيهم ونحن عالمون بها من حين أوقعوا العهد...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فلما آتاهم من فضله} ما طلبوا من سعة رزقه. {بخلوا به وتولوا} أي ما لبثوا أن بخلوا بما آتاهم عقب حصوله، وأمسكوه فلم يتصدقوا بشيء منه، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا وأقسموا، ولم يكن توليهم هذا أمرا عارضاً شغلهم عنه شاغل يزول بزواله، بل تولوا {وهم معرضون} بكل قواهم عن الصدقة والعمل الصالح، فكان الإعراض صفة راسخة فيهم حاكمة عليهم، بحيث إذا ذكروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا إليه لا يستجيبون...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فلما أن استجاب اللّه له ورزقه من فضله نسي عهده، وتنكر لوعده، وأدركه الشح والبخل فقبض يده، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد. فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على اللّه فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه، والموت مع هذا النفاق، ولقاء اللّه به. والنفس البشرية ضعيفة شحيحة، إلا من عصم اللّه؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان، وترتفع على ضرورات الأرض، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب، لأنها تؤمل في خلف أعظم، وتؤمل في رضوان من اللّه أكبر. والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند اللّه باق. وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل اللّه تطوعاً ورضى وتطهراً، وهو آمن مغبته. فحتى لو فقد المال وافتقر منه، فإن له عوضاً أعظم عند اللّه. فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل. ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} لأن العهد لم يكن منطلقاً من حالة تقوى وموقف إيمان، بل من حالةٍ استعراضيّةٍ تمنحهم فرصة الهروب من الموقف الصعب آنذاك من جهة، وتهيئ لهم الظهور بمظهر التقوى والصلاح من جهة أخرى، فإذا جاءت التجربة الحيّة التي تتحدى فيهم صدق الموقف، سقطوا أمامها، وامتنعوا عن الوفاء بما عاهدوا الله عليه، وبخلوا بالمال الذي رزقهم الله إياه {وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن كل ما قالوه، وعن كل ما التزموا به...

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية: -وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود الله تعالى.