في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ} (78)

69

ثم يأخذ إبراهيم - عليه السلام - في صفة ربه . رب العالمين . وصلته به في كل حال وفي كل حين . فنحس القربى الوثيقة ، والصلة الندية ، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة ، وفي كل حاجة وغاية .

( الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين . والذي يميتني ثم يحيين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) . .

ونستشعر من صفة إبراهيم لربه ، واسترساله في تصوير صلته به ، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه . وأنه يتطلع إليه في ثقة ، ويتوجه إليه في حب ؛ وأنه يصفه كأنه يراه ، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه . . والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل ، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد . .

( الذي خلقني فهو يهدين ) . . الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم ؛ فهو أعلم بماهيتي وتكويني ، ووظائفي ومشاعري ، وحالي ومآلي : ( فهو يهدين )إليه ، وإلى طريقي الذي أسلكه ، وإلى نهجي الذي أسير عليه . وكأنما يحس إبراهيم - عليه السلام - أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع ، يصوغها كيف شاء ، على أي صورة أراد . إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهۡدِينِ} (78)

الأظهر أن الموصول في موضع نعت ل { ربّ العالمين } [ الشعراء : 77 ] وأنّ { فهو يهدين } عطف على الصلة مفرع عليه لأنه إذا كان هو الخالق فهو الأولى بتدبير مخلوقاته دون أن يتولاّها غيره . ويجوز أن يكون الموصول مبتدأ مستأنفاً به ويكون { فهو يهدين } خبراً عن { الذي } . وزيدت الفاء في الخبر لمشابهة الموصول للشرط . وعلى الاحتمالين ففي الموصولية إيماء إلى وجه بناء الخبر وهو الاستدراك بالاستثناء الذي في قوله : { إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] ، أي ذلك هو الذي أُخلصُ له لأنه خلقني كقوله في الآية الأخرى : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] .

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { فهو يهدين } دون أن يقول : فيهدين ، لتخصيصه بأنه متولي الهداية دون غيره لأن المقام لإبطال اعتقادهم تصرف أصنامهم بالقصر الإضافي ، وهو قصر قلب . وليس الضمير ضمير فصل لأن ضمير الفصل لا يقع بعد العاطف .

والتعبير بالمضارع في قوله : { يهدين } لأن الهداية متجددة له . وجعل فعل الهداية مفرّعاً بالفاء على فعل الخلق لأنه معاقب له لأن الهداية بهذا المعنى من مقتضى الخلق لأنها ناشئة عن خلق العقل كما قال تعالى : { الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] . والمراد بالهداية الدلالة على طرق العلم كما في قوله تعالى : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] فيكون المعنى : الذي خلقني جسداً وعقلاً . ومن الهداية المذكورة دفع وساوس الباطل عن العقل حتى يكون إعمال النظر معصوماً من الخطأ .