في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (130)

121

وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة - معركة أحد - والتعقيبات على وقائعها وأحداثها . . تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى ، التي المعنا في مقدمة الحديث إليها . المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة . . يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله . وعن الإنفاق في السراء والضراء ، والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون . وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة . وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة :

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ، واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون . وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين : الذين ينفقون في السراء والضراء ، والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين ) . .

تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ؛ لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة :

الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ؛ ورده كله إلى محور واحد : محور العبادة لله والعبودية له ، والتوجه إليه بالأمر كله . والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها ، وفي كل شأن من شؤونها ، وفي كل جانب من جوانب نشاطها . ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني ؛ وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله ، كلما أسلفنا .

والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها ، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق . ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ؛ وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب ، والسيطرة على الأهواء والشهوات ، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة . . فكلها قريب من قريب . . وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات ، وكل توجيه من هذه التوجيهات ، يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة ، وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة !

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ، واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) . .

ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا . . ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ، ويتداروا به ، ليقولوا : إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافا مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم !

ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع ، وليست شرطا يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد : ( وذروا ما بقي من الربا ) . . أيا كان !

فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف ، لنقول : إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة ، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت ، أيا كان سعر الفائدة .

إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية ، ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال .

إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف . فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .

ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضا - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها ، وتأثيره في مصائرها جميعا .

والإسلام - وهو ينشىء الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية ، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير . .

/خ179

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (130)

هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد » ، ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً ، والربا الزيادة ، وقد تقدم ذكر مثل هذه الآية وأحكام الربا في سورة البقرة{[3516]} ، وقوله { أضعافاً } نصب في موضع الحال ، ومعناه : الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين ، فكان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ؟ وقوله : { مضاعفة } إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام ، كما كانوا يصنعون ، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه ، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة ، وقد حرم الله جميع أنواع الربا ، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور ، وأيضاً فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين{[3517]} أو من التأخير ونحوه .


[3516]:- ذكر أبو حيان وجها آخر في سبب نزول هذه الآية (انظر البحر المحيط 3/54).
[3517]:- العين والعينة ضرب من ضروب الربا، يتم بالحيل الكلامية.