أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . ويسدل الستار هنا ، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه :
( يوسف - أيها الصديق - أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ) . .
والساقي يلقب يوسف بالصديق ، أي الصادق الكثير الصدق . وهذا ما جربه في شأنه من قبل . .
( أفتنا في سبع بقرات سمان . . . ) . .
ونقل ألفاظ الملك التي قالها كاملة ، لأنه يطلب تأويلها ، فكان دقيقا في نقلها ، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولا ، وليجيء تأويلها ملاصقا في السياق لذكرها .
{ يوسف أيها الصّديق } أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف ، وإنما وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه . { أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات } أي في رؤيا ذلك . { لعلي أرجع إلى الناس } أعود إلى الملك ومن عنده ، أو إلى أهل البلد إذ قيل إن السجن لم يكن فيه . { لعلهم يعلمون } تأويلها أو فضلك ومكانك ، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازما بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم .
المعنى : فجاء الرسول - وهو الساقي - إلى يوسف فقال له : يا يوسف { أيها الصديق } - وسماه صديقاً من حيث كان جرب صدقه في غير شيء - وهو بناء مبالغة من صدق ، وسمي أبو بكر صديقاً من صدق غيره ، إذ مع كل تصديق صدق ، فالمصدق بالحقائق صادق أيضاً ، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون }{[6707]} .
ثم قال : { أفتنا في سبع بقرات } أي فيمن رأى في منام سبع بقرات ، وحكى النقاش حديثاً روى فيه : أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه ، وأخرجه من السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سبباً لفرج يوسف . ويروى أن الملك كان يرى { سبع بقرات سمان } يخرجن من نهر ، وتخرج وراءها { سبع عجاف } ، فتأكل العجاف السمان ، فكان يعجب كيف غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف{[6708]} ، وكان يرى { سبع سنبلات خضر } وقد التفت بها سبع يابسات ، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضاً لذلك .
وقوله : { لعلهم يعلمون } أي تأويل هذه الرؤيا ، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس . وقيل : { لعلهم يعلمون } مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سبباً لتخلصك .
الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام ، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة . وحُذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله ، إذ لا غرض فيه من القصة . وهذا من بديع الإيجاز .
و { الصدّيق } أصله صفةُ مبالغة مشتقة من الصّدْق ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وأمه صدّيقةٌ } في سورة العقود ( 75 ) ، وغلب استعمال وصف الصدّيق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى ، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين .
وأحسنُ ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال : « الصديقون هم دُوَيْن الأنبياء » . وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين } [ سورة النساء : 69 ] الآية ، وقوله : { وأمه صدّيقة } [ سورة المائدة : 75 ] . ومنه ما لَقّب النبيءُ أبا بكر بالصدّيق في قوله في حديث رجف جبل أحُد أُسْكُنْ أُحُد فإنما عليك نبيء وصدّيق وشهيدان . من أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله ومنهم علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الأمة بعد النبي . وقد جَمع الله هذا الوصف مع صفة النبوءة في قوله : { واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقاً نبياً } في سورة مريم ( 56 ) .
وقد يطلق الصدّيق على أصل وصفه ، كما في قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورُسله أولئك هم الصدّيقون } [ سورة الحديد : 19 ] على أحد تأويلين فيها .
فهذا الذي استفتَى يوسف عليه السّلام في رؤيا الملِك وَصَف في كلامه يوسف عليه السّلام بمعنى يدل عليه وصف الصدّيق في اللسان العربي ، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف عليه السّلام في السجن .
فضمّ ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى : { وأمه صدّيقةٌ } في سورة العقود ( 75 ) ، وإلى قوله : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين } في سورة النساء ( 69 ) .
وإعادة العِبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلّغ السؤال كما تلقاه ، وذلك تمام أمانة الناقل .
و { الناس } تقدم في قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } في سورة البقرة ( 8 ) .
والمراد ب { الناس } بعضهم ، كقوله تعالى : { الذينَ قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم } [ سورة آل عمران : 173 ] . والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه ، لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعاً ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم . وهذا وجه قوله : { لعلهم يعلمون } مع حذف معمول { يعلمون } لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.