في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (30)

ثم يعقب على هذه الحقائق الثلاث بالحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الحقائق جميعا . الحقيقة الأولى التي تنبثق منها الحقائق جميعا . وهي الحقيقة التي تعالجها الجولة ؛ وتقدم لها بهذا الدليل :

ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . .

ذلك . . ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق . . ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل . قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة ، والتي يقوم بها هذا الوجود . فكون الله هو الحق . سبحانه . هو الذي يقيم هذا الكون ، وهو الذي يحفظه ، وهو الذي يدبره ، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق ، ما شاء الله له أن يكون . .

( ذلك بأن الله هو الحق ) . . كل شيء غيره يتبدل . ولك شيء غيره يتحول . وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان ، وتتعاوره القوة والضعف ، والازدهار والذبول ، والإقبال والإدبار . وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن ، ويزول بعد أن يكون . وهو وحده - سبحانه - الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول . .

ثم تبقى في النفس بقية من قوله تعالى : ( ذلك بأن الله هو الحق ) . . بقية لا تنقلها الألفاظ ولا يستقل بها التعبير البشري الذي أملك . بقية يتمثلها القلب ويستشعرها الضمير ؛ و يحسها الكيان الإنساني كله ويقصر عنها التعبير ! . . وكذلك : ( وأن الله هو العلي الكبير ) . . الذي ليس غيره( علي )ولا( كبير ) ! ! ! ترى قلت شيئا يفصح عما يخالج كياني كله أمام التعبير القرآني العجيب ? أحس أن كل تعبير بشري عن مثل هذه الحقائق العليا ينقص منها ولا يزيد ؛ وأن التعبير القرآني - كما هو - هو وحده التعبير الموحي الفريد ! ! !

ويعقب السياق على ذلك المشهد الكوني ، وهذه اللمسة الوجدانية ، بمشهد آخر من مألوف حياة البشر . مشهد الفلك تجري في البحر بفضل الله . ويقفهم في هذا المشهد أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر وخطره ، مجردة من القوة والبأس والبطر والغرور :

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (30)

ولما ثبت{[54219]} بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال : { ذلك } أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف{[54220]} الباهرة { بأن } أي{[54221]} بسبب أن { الله } أي{[54222]} الذي لا عظيم سواه { هو } وحده { الحق } أي الثابت بالحقيقة وثبوت غيره في الواقع عدم ، لأنه مستفاد من الغير ، وليس له الثبوت من ذاته{[54223]} ، ومنه ما أشركوا به ، ولذلك أفرده بالنص ، فقال صارفاً للخطاب الماضي إلى الغيبة على قراءة البصريين{[54224]} وحمزة وحفص عن عاصم إيذاناً بالغضب ، وقراءة الباقين على الأسلوب الماضي { وأنَّ ما يدعون } أي هؤلاء المختوم على مداركهم ، وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله : { من دونه } .

ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه ، كقوله { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } {[54225]}وأكثر هنا من إظهار الجلالة موضع الإضمار تنبيهاً على عظيم المقام{[54226]} لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال : { الباطل } أي العدم حقاً ، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه ، وإلا لمنع من{[54227]} شيء من هذه الأفعال مرة من المرات ، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له .

ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق ، قال : { وأن الله } أي الملك الأعظم{[54228]} وحده ، ولما كان النيران مما عبد من دون الله ، وكانا قد جمعاً {[54229]}علواً وكبراً{[54230]} ، وكان ليس لهما من ذاتهما{[54231]} إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر ، ختم بقوله : { هو العلي الكبير } أي عن أن يداينه في عليائه ضد ، أو يباريه{[54232]} في كبريائه ند .


[54219]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أثبت.
[54220]:من مد، وفي الأصل وظ وم: الإفاضات.
[54221]:زيد من ظ وم ومد.
[54222]:زيد من ظ وم ومد.
[54223]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: دابه.
[54224]:راجع نثر المرجان 5/340.
[54225]:سقط ما بين الرقمين من م.
[54226]:سقط ما بين الرقمين من م.
[54227]:زيد من ظ وم ومد.
[54228]:زيد في الأصل: أي، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54229]:من مد، وفي الأصل وظ وم: كبرا وعلوا.
[54230]:من مد، وفي الأصل وظ وم: كبرا وعلوا.
[54231]:في ظ: ذاتهم.
[54232]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: يقاربه.