ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى ، لينطق رب العزة والجلالة ، وصاحب الملك والحكم :
( فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا . وما كانوا بآياتنا يجحدون . ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله ؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءت رسل ربنا بالحق ، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل . قد خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوباً . . لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا . لمحة مع المعذبين في النار ، المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله ، وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين . فصله الله - سبحانه - على علم - فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون . . ولمحة معهم - وهم بعد في الدنيا - ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير ؛ وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل . فالمآل هو مايرون في هذا المشهد من واقع الحال !
إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض ؛ لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب !
وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير ؛ ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء . تذكيراً بهذا اليوم ومشاهده ، وتحذيراً من التكذيب بآيات الله ورسله ، ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله ، حيث لا فسحة لتوبة ، ولا شفاعة في الشدة ، ولا رجعة للعمل مرة أخرى .
نعم . . هكذا ينتهي الاستعراض العجيب . فنفيق منه كما نفيق من مشهد أخاذ كنا نراه .
ونعود منه إلى هذه الدنيا التي فيها نحن ! وقد قطعنا رحلة طويلة طويلة في الذهاب والمجيء !
إنها رحلة الحياة كلها ، ورحلة الحشر والحساب والجزاء بعدها . . ومن قبل كنا مع البشرية في نشأتها الأولى ، وفي هبوطها إلى الأرض وسيرها فيها !
وهكذا يرتاد القرآن الكريم بقلوب البشر هذه الآماد والأكوان والأزمان . يريها ما كان وما هو كائن وما سيكون . . كله في لمحات . . لعلها تتذكر ، ولعلها تسمع للنذير :
( كتاب أنزل إليك ، فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، ولا تتبعوا من دونه أولياء ، قليلاً ما تذكرون ) . .
يقول تعالى مخبرًا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول ، وأنه كتاب مفصل مبين ، كما قال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ] }{[11806]} الآية [ هود : 1 ] .
وقوله : { فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ }{[11807]} أي : على علم منا بما فصلناه به ، كما قال تعالى : { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ]
قال ابن جرير : وهذه الآية مردودة على قوله : { كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{[11808]} ] } [ الأعراف : 2 ]{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ [ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ] }{[11809]} الآية .
وهذا الذي قاله فيه نظر ، فإنه قد طال الفصل ، ولا دليل على ذلك ، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة ، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، كقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] ؛ ولهذا قال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَىَ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أقسم يا محمد لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب ، يعني القرآن الذي أنزله إليهم ، يقول : لقد أنزلنا إليهم هذا القرآن مفصلاّ مبينا فيه الحقّ من الباطل ، عَلى عِلْمٍ يقول : على علم منا بحقّ ما فصل فيه من الباطل الذي ميز فيه بينه وبين الحقّ ، هُدًى وَرَحْمَةً يقول : بيناه ليهتدي ويرحم به قوم يصدّقون به وبما فيه من أمر الله ونهيه وأخباره ووعده ووعيده ، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى . وهذه الاَية مردودة على قوله : كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى للمُؤْمِنينَ . وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصّلْناهُ على عِلْمٍ والهدى في موضع نصب على القطع من الهاء التي في قوله : فَصّلْناهُ ولو نُصب على فعل فصّلناه ، فيكون المعنى : فصّلنا الكتاب كذلك كان صحيحا ولو قرىء «هُدًى وَرَحْمَةٍ » كان فِي الإعراب فصيحا ، وكان خفض ذلك بالردّ على الكتاب .
{ ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه } بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة . { على علم } عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما ، وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى عالم بعلم ، أو مشتملا على علم فيكون حالا من المفعول . وقرئ " فضلناه " أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك . { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } حال من الهاء .
الواو في { ولقد جئناهم } عاطفة هذه الجملة على جملة { ونادى أصحاب النّار أصحابَ الجنّة } [ الأعراف : 50 ] ، عطف القصّة على القصّة ، والغرضِ على الغرض ، فهو كلام أنف انتقل به من غرض الخبر عن حال المشركين في الآخرة إلى غرض وصف أحوالهم في الدّنيا ، المستوجبين بها لما سيلاقونه في الآخرة ، وليس هو من الكلام الذي عقب الله به كلام أصحاب الجنّة في قوله : { فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا } [ الأعراف : 51 ] لأنّ قوله هنا { هل ينظرون إلاّ تأويله } [ الأعراف : 53 ] إلخ ، يقتضي أنّه حديث عن إعراضهم عن القرآن في الدّنيا ، فضمير الغائبين في قوله : { جئناهم } عائد إلى الذين كذّبوا في قوله : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء } [ الأعراف : 40 ] الآية .
والمراد بالكتاب القرآن . والباء في قوله : { بكتاب } لتعدية فعل { جئناهم } ، مثل الباء في قوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] فمعناه : أجأناهم كتاباً ، أي جعلناه جاء يا إياهم ، فيؤول إلى معنى أبلغناهم إياه وأرسلناه إليهم .
وتأكيد هذا الفعل بلام القسم و ( قَدْ ) إمّا باعتبار صفة ( كتاب ) ، وهي جملة { فصّلناه على علم هدى ورحمة } فيكون التّأكيد جارياً على مقتضى الظّاهر ، لأنّ المشركين ينكرون أن يكون القرآن موصوفاً بتلك الأوصاف ، وإمّا تأكيد لفعل { جئناهم بكتاب } وهو بلوغ الكتاب إليهم فيكون التأكيد خارجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، بتنزيل المبلَّغ إليهم منزلة من ينكر بلوغ الكتاب إليهم ، لأنّهم في إعراضهم عن النّظر والتّدبر في شأنه بمنزلة من لم يبلغه الكتاب ، وقد يناسب هذا الاعتبار ظاهر قوله بعد : { يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } [ الأعراف : 53 ] .
وتنكير ( كتاب ) ، وهو معروف ، قصد به تعظيم الكتاب ، أو قصد به النّوعيّة ، أي ما هو إلاّ كتاب كالكتب التي أنزلت من قبل ، كما تقدّم في قوله تعالى : { كتاب أنزل إليك } في طالع هذه السّورة ( 2 ) .
{ وفصلناه } أي بيّناه أي بيّنّا ما فيه ، والتّفصيل تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في سورة الأنعام ( 55 ) .
و{ على عِلْمٍ } ظرف مستقر في موضع الحال من فاعل { فصّلناه } أي حال كوننا على علم ، و ( على ) للاستعلاء المجازي ، تدلّ على التّمكّن من مجرورها ، كما في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] وقوله : { قل إني على بينة من ربي } في سورة الأنعام ( 57 ) . ومعنى هذا التّمكنِ أن علم الله تعالى ذاتي لا يعْزُب عنه شيء من المعلومات .
وتنكير { عِلْم } للتّعظيم ، أي عالمين أعظمَ العلم ، والعظمة هنا راجعة إلى كمال الجنس في حقيقته ، وأعظم العلم هو العلم الذي لا يحتمل الخطأ ولا الخفاء أي عالمين علماً ذاتياً لا يتخلّف عنّا ولا يخْتلف في ذَاته ، أي لا يحتمل الخطأ ولا التّردّد .
و { هدى ورحمة } حال من { كتاب } . أو من ضميره في قوله : { فصّلناه } . ووصف الكتاب بالمصدرين { هدى ورحمة } إشارة إلى قوّة هديه النّاس وجلب الرّحمة لهم .
وجملة { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } إشارة إلى أنّ المؤمنين هم الذين توصّلوا للاهتداء به والرحمة . وأن من لم يؤمنوا قد حُرموا الاهتداء والرّحمة . وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة ( 2 ) : { هدى للمتقين . }