وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة - معركة أحد - والتعقيبات على وقائعها وأحداثها . . تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى ، التي المعنا في مقدمة الحديث إليها . المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة . . يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله . وعن الإنفاق في السراء والضراء ، والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون . وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة . وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة :
( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ، واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون . وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين : الذين ينفقون في السراء والضراء ، والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين ) . .
تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ؛ لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة :
الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ؛ ورده كله إلى محور واحد : محور العبادة لله والعبودية له ، والتوجه إليه بالأمر كله . والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها ، وفي كل شأن من شؤونها ، وفي كل جانب من جوانب نشاطها . ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني ؛ وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله ، كلما أسلفنا .
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها ، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق . ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ؛ وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب ، والسيطرة على الأهواء والشهوات ، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة . . فكلها قريب من قريب . . وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات ، وكل توجيه من هذه التوجيهات ، يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة ، وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة !
( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ، واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) . .
ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا . . ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ، ويتداروا به ، ليقولوا : إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافا مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم !
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع ، وليست شرطا يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد : ( وذروا ما بقي من الربا ) . . أيا كان !
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف ، لنقول : إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة ، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت ، أيا كان سعر الفائدة .
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية ، ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف . فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضا - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها ، وتأثيره في مصائرها جميعا .
والإسلام - وهو ينشىء الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية ، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير . .
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة ، كما كانوا يقولون في الجاهلية - إذا حَلّ أجل الدين : إما أن يَقْضِي وإمّا أن يُرْبِي ، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القَدْر ، وهكذا كلّ عام ، فربما{[5669]} تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفا .
{ يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ، لا تأكلوا الربا في إسلامكم ، بعد إذ هداكم له ، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم . وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه ، فيقول له الذي عليه المال : أخر عني دينك ، وأزيدك على مالك ! فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة ، فنهاهم الله عزّ وجلّ في إسلامهم عنه . كما :
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال : كانت ثقيف تَداين في بني المغيرة في الجاهلية ، فإذا حلّ الأجل ، قالوا : نزيدكم وتؤخرون ! فنزلت : { لا تَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } : أي لا تأكلوا في الإسلام إذ هداكم له ، ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره مما لا يحلّ لكم في دينكم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } قال : ربا الجاهلية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال سمعت ابن زيد يقول في قوله : { لاَتَأْكُلُوا الرّبا أضْعافا مُضَاعَفَةً } قال : كان أبي يقول : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السنّ ، يكون للرجل فضل دين ، فيأتيه إذا حلّ الأجل ، فيقول له : تقضيني أو تزيدني ؟ فإن كان عنده شيء يقضيه قضى ، وإلا حوّله إلى السنّ التي فوق ذلك ، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ، ثم حقة ، ثم جذعة ثم رباعيا ، ثم هكذا إلى فوق . وفي العين يأتيه ، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل ، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا ، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين ، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة ، يضعفها له كل سنة ، أو يقضيه . قال : فهذا قوله : { لا تأكُلُوا الرّبا أضْعَافا مُضَاعَفَةً } .
وأما قوله : { واتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإنه يعني : واتقوا الله أيها المؤمنون في أمر الربا فلا تأكلوه ، وفي غيره مما أمركم به ، أو نهاكم عنه ، وأطيعوه فيه لعلكم تفلحون ، يقول : لتنجحوا فتنجوا من عقابه ، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه ، والخلود في جنانه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } : أي فأطيعوا الله لعلكم أن تنجوا مما حذّركم من عذابه ، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } لا تزيدوا زيادات مكررة ، ولعل التخصيص بحسب الواقع . إذ كان الرجل منهم يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " مضعفة " . { واتقوا الله } فيما نهيتم عنه . { لعلكم تفلحون } راجين الفلاح .
هذا النهي عن أكل الربا اعتراض أثناء قصة «أحد » ، ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً ، والربا الزيادة ، وقد تقدم ذكر مثل هذه الآية وأحكام الربا في سورة البقرة{[3516]} ، وقوله { أضعافاً } نصب في موضع الحال ، ومعناه : الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين ، فكان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ؟ وقوله : { مضاعفة } إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام ، كما كانوا يصنعون ، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه ، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة ، وقد حرم الله جميع أنواع الربا ، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور ، وأيضاً فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين{[3517]} أو من التأخير ونحوه .
لولا أنّ الكلام على يوم أحُد لم يكمل ، إذ هو سيعاد عند قوله تعالى : { قد خَلت من قبلِكُم سنن } إلى قوله : { يستبشرون بنعمة من الله . . . } [ آل عمران : 171 ] الآية لقلنا إنّ قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا } اقتضاب تشريع ، ولكنّه متعيّن لأنْ نعتبره استطراداً في خلال الحديث عن يوم أحُد ، ثمّ لم يظهر وجه المناسبة في وقوعه في هذا الأثناء . قال ابن عطية : ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً . وقال الفخر : من النّاس من قال : لمّا أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنَّهي فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا } فلا تعلّق لها بما قبلها .
وقال القفّال : لمّا أنفق المشركون على جيوشهم أموالاً جمعوها من الربا ، خيف أن يدعُو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الرّبا . وهذه مناسبة مستبعدة . وقال ابن عرفة : لمّا ذكر الله وعيد الكفار عقّبه ببيان أن الوعيد لا يخصّهم بل يتناول العصاة ، وذكر أحد صور العصيان وهي أكل الربا . وهو في ضعف ما قبله ، وعندي بادىء ذي بدء أن لا حاجة إلى اطّراد المناسبة ، فإن مدّة نزول السورة قابلة ، لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة ، كما بيّناه في المقدّمة الثَّامنة ، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قبلها فكتبت هنا ولا تكون بَينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقاً بالكلام .
ويتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى ممَّا في هذه السورة ، فالجواب : أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيداً لتلك ، ولم يكن النّهي فيها بالغاً ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حَرّم الله الربا وأن ثقيفاً قالوا : كيف ننهى عن الربا ، وهومثل البيع ، ويكون وصف الربا ب { أضعافاً مضاعفة } نهياً عن الربا الفاحش وسَكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف ، ثمّ نزلت الآية الَّتي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضاً بالمراباة عقب غزوة أحُد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة . وتقدّم الكلام على معنى أكل الرّبا ، وعلى معنى الربا ، ووجه تحريمه ، في سورة البقرة .
وقوله : { أضعافاً مضاعفة } حال من { الرّبا } والأضعاف جمع ضعف بكسر الضّاد وهو معادل الشيء في المقدار إذا كان الشيء ومماثله متلازمين ، لا تقول : عندي ضعف درهمك ، إذ ليس الأصل عندك ، بل يحسن أن تقول : عندي درهمان ، وإنَّما تقول : عندي درهم وضعفه ، إذا كان أصل الدرهم عندك ، وتقول : لك درهم وضِعفه ، إذا فعلت كذا .
والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف بأل نحو ضِعفُه ، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجَمع كما هنا ، وإذا عُرف الضعف بأل صحّ اعتبار العهد واعتبارالجنس ، كقوله تعالى : { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } [ سبأ : 37 ] فإن الجزاء أضعاف ، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف .
وقوله : { مضاعفة } صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التَّضعيف ، وذلك أنّهم كانوا إذا دَاينوا أحداً إلى أجل داينوه بزيادة ، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة ، فيصير الضِعف ضعفاً ، ويزيد ، وهكذا ، فيصدق بصورة أن يجعلوا الدّين مضاعفاً بمثله إلى الأجل ، وإذا ازداد أجلاً ثانياً زاد مثل جميع ذلك ، فالأضعاف من أوّل التداين للأجل الأوّل ، ومضاعفتها في الآجال الموالية ، ويصدُق بأن يداينوا بمراباة دون مقدار الدّين ثُمّ تزيد بزيادة الآجال ، حتَّى يصير الدّين أضعافاً ، وتصير الأضعاف أضعافاً ، فإن كان الأوّل فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوماً : لأنّ شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرَى لحكاية الواقع ، وإن كان الثَّاني فالحال واردة لقصد التشنيع وإراءة هذه العاقبة الفاسدة . وإذ قد كان غالب المدينين تستمرّ حاجتهم آجالاً طويلة ، كان الوقوع في هذه العاقبة مطرّداً ، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوماً كذلك إذ ليس القصد منها التقييدَ بل التشنيعَ ، فلا يقتصر التَّحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافاً كثيرة ، حتَّى يقول قائل : إذا كان الرّبا أقلّ من ضعف رأس المال فليس بمحرّم . فليس هذا الحال هو مصبّ النَّهي عن أكل الربا حتَّى يَتَوهَّم متوهّم أنَّه إن كان دون الضعف لم يكن حرَاماً . ويظهر أنَّها أوّل آية نزلت في تحريم الربا ، وجاءت بعدها آية البقرة ، لأن صيغة هذه الآية تناسب ابتداء التشريع ، وصيغة آية البقرة تدلّ على أن الحكم قد تقرّر ، ولذلك ذكر في تلك الآية عذابُ المستمرّ على أكل الرّبا . وذُكر غرور من ظنّ الرّبا مثل البيع ، وقيل فيها { فمن جاءه موعظة من ربِّه فانتهى فله ما سلف } [ البقرة : 275 ] الآية ، كما ذكرناه آنفاً ، فمفهوم القيد معطَّل على كُلّ حال .
وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشَّريعة حملَ الأمَّة على مواساة غنيِّها محتاجَها احْتياجاً عارضاً موقّتاً بالقرض ، فهو مرتبة دون الصدقة ، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة ، ومنها ندب كالصّدقة والسلففِ ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها ، وكذلك المعروف كُلّه ، وذلك أن العادة الماضية في الأمم ، وخاصّة العرب ، أنّ المرء لا يتداين إلاّ لضرورة حياته ، فلذلك كان حقّ الأمَّة مواساته . والمواساة يظهر أنَّها فرض كفاية على القادرين عليها ، فهو غير الَّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعيْن والمتقارضين : للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلاّ أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية ، لا باختلاف أحوال المتعاقدين ، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف ، ولو كان المستسلف غير محتاج ، بل كان طالبَ سعة وإثراءٍ بتحريك المال الَّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك ، وسمَح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتِّجارة ودين السَّلَم ، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية .
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعدَ بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال ، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا ، فيكون تحريم الرّبا ، ولو كان قليلاً ، مع تجويز الربح من التِّجارة والشركات ، ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد .
ولقد قضى المسلمون قروناً طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا ، ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم ، أزمان كانت سيادة العالم بيدهم ، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شؤونهم ، فلمَّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية ، وارتبط المسلمون بغيرهم في التِّجارة والمعاملة ، وانتظمت سوق الثَّروة العالمية على قواعد القوانين الَّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات ، ولا تعْرف أساليب مواساة المسلمين ، دهش المسلمون ، وهم اليوم يتساءلون ، وتحريم الربا في الآية صريح ، وليس لما حرّمه الله مبيح . ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تُبنى على أصول الشريعة في المصارف ، والبيوع ، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال . وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها . وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى .
وقد تقدّم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الآيات الخمس } من سورة [ البقرة : 275 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة}، وذلك أن الرجل كان إذا حل ماله طلبه من صاحبه، فيقول المطلوب: أخر عني وأزيدك على مالك، فيفعلون ذلك، فوعظهم الله تعالى، وقال: {واتقوا الله} في الربا {لعلكم تفلحون}...
عن زيد بن أسلم أنه قال: كان الربا في الجاهلية، أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الأجل قال: أتقضي أم تربي؟ فإن قضى أخذ، وإلا زاده في حقه وأخر عنه في الأجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تأكلوا الربا في إسلامكم، بعد إذ هداكم له، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخر عني دينك، وأزيدك على مالك! فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عزّ وجلّ في إسلامهم عنه... وأما قوله: {واتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإنه يعني: واتقوا الله أيها المؤمنون في أمر الربا فلا تأكلوه، وفي غيره مما أمركم به، أو نهاكم عنه، وأطيعوه فيه لعلكم تفلحون، يقول: لتنجحوا فتنجوا من عقابه، وتدركوا ما رغبكم فيه من ثوابه، والخلود في جنانه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} قوله: {لا تأكلوا الربا} كقوله: {وذروا ما بقي من الربا} [البقرة: 278] ففيه نهي عن الأخذ، وكقوله: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء: 161] فعلى ذلك قوله تعالى: {لا تأكلوا الربا} أي لا تأخذوا. وقوله تعالى: {أضعافا مضاعفة} [قيل: حكم] النهي عن المضاعفة وغير المضاعفة حرام، وقيل: يحتمل هذا وجوها: يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الربا، فنهوا عن أخذ المضاعفة، ويحتمل قوله: {لا تأكلوا الربا} أي لا تكثروا أموالكم بأخذ المضاعفة، ويحتمل {أضعافا مضاعفة} أي لا تصروا على استحلال الربا فتتبعوه آخر الأبد، ويحتمل {أضعافا مضاعفة} تضعيف العذاب، ويحتمل ما قيل: ما كان أحدهم يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل زاد في الربح، وزاد الآخر في الأجل، ذلك كان ربا الجاهلية. قال الشيخ، رحمه الله، في قوله: {لا تأكلوا الربا} يحتمل الأكل لأنه نهاية كل كسب، ويحتمل الأخذ كقوله: {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه} [النساء: 161] وقوله: وذروا ما بقي من الربا} [البقرة: 278] وقوله: {أضعافا مضاعفة} في الأخذ أي لا تأخذوا [لتكثر أموالكم] وتقصدوا بذلك تضاعف أموالكم إلى غير حد. وليس فيه أن القليل ليس بمحرم، لكن ذلك هو مقصود بأصله، فنهوا عن ذلك، وحرمة القليل بغير ذلك من الآيات، ويحتمل أن يكون في [ما زاد عليها خرج النهي] لا على الإذن بدون ذلك. ولو كان على حقيقة الأكل فهو على النهي عن التوسع بالربا أو الأمر بالعود إلى ما لا ربا فيه، وإن كان في ذلك ضيق، والله أعلم. ويحتمل أن يكون في الآية إضمار، فيقول: {لا تأكلوا الربا} فإنكم إن أكلتموه بعد العلم بالتحريم تضاعفت عليكم المآثم والعقوبات، وقد جعل الله للربا أعلاما دلت على ما غلظ شأنها محو ما أوعد من لا يتقيه بالخروج بحرب الله وحرب رسوله عليه السلام وبالتخبط يوم القيامة وانتفاخ البطن وما جرى في معاقبة اليهود بتحريم أشياء بمكان ذلك وقوم شعيب ما حل بهم بلزومهم تعاطي الربا. وقوله تعالى: {واتقوا الله} ولا تأخذوا الربا، ولا تستحلوه {لعلكم تفلحون}...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حرَّم الربا على العِباد ومنه إقراض الواحد باثنين تستردهما، وسأل منك القرض الواحد بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، والإشارة فيه أن الكرم لا يليق بالخَلْق وإنما هو صفة الحق سبحانه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نهي عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه. كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {مضاعفة} إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حال التضعيف خاصة، وقد حرم الله جميع أنواع الربا، فهذا هو مفهوم الخطاب إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور، وأيضاً فإن الربا يدخل جميع أنواعه التضعيف والزيادة على وجوه مختلفة من العين أو من التأخير ونحوه.
اعلم أن من الناس من قال: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد، أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا} وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الأقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، فلا جرم نهاهم الله عن ذلك... ثم قال تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}. اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب، وأن الفلاح يتوقف عليه، فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قلت: وإنما خص الربا من بين سائر المعاصي؛ لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله:"فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله" [البقرة: 279] والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول: إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم. فأمرهم بترك الربا؛ لأنه كان معمولا به عندهم. والله أعلم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
مناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة: أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم، واستطرد لذكر قصة أحد. وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم، واتخاذ إخلاء منهم، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث: « إن الله تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا» « وأن آكل الحرام يقول إذا حج: لبيك وسعديك. فيقول الله له: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك» فناسب ذكر هذه الآية هنا. وقيل: ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقروناً بالصبر والتقوى، فبدأ بالأهم منها وهو: ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى، ثم بالطاعة. وقيل: لما قال تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض} وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه. وآكلُ الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر، نبَّه تعالى على ذلك، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية، وقد تقدم الربا في سورة البقرة...
{واتقوا الله لعلكم تفلحون} لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا، أمر بتقوى الله إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهى الشرع عنه. ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية الله تعالى، فلم يأت واتقوا الله في أكل الربا بل أمروا بالتقوى، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات لاتباع الشهوات فكان مبعداً لمتعاطيه من الرحمة مدنياً من النقمة، وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه بسبب إقبالهم قبل إتمام هزيمة العدو على الغنائم للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى الربا في اللغة إذ هو مطلق الزيادة أقبل تعالى عليهم بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، صدقوا إيمانكم بأن {لا تأكلوا الربا} أي المقبح فيما تقدم أمره غاية التقبيح، وهو كما ترى إقبال متلطف منادٍ لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق المعرض عن التحصيل {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3]؛ {والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17]؛ {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ناهٍ عن الالتفات إلى الدنيا بالإقبال على غنيمة أو غيرها بطريق الإشارة بدلالة التضمن، إذ المطلق جزء المقيد، ففي هذه العبارة التي صريحها ناهٍ عن الإقبال على الدنيا إقبالاً يوجب الإعراض عن الآخرة باستباحة أكل الربا المتقدم في البقرة من النهي عنه من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى، ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة: 278]، {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} [البقرة: 86]. ولما كان في تركه الإثخان في العدو بعد زوال المانع منه بالهزيمة مع أن فيه من حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف لأجل الغنيمة التي هي لمن غلب، وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة، دلالة على تناهي الحب للتكاثر، ناسب المقام ربا التضعيف فقال: -أو يقال: لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة، وكان حب الزيادة حلالاً قد يجر إلى حبها حراماً، فيجر إلى الربا المضاعف، لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه قال -: {أضعافاً مضاعفة} أي لا تتهيؤوا لذلك بإقبالكم على مطلق الزيادة، فإن المطلوب منكم بذل المال فضلاً عن الإعراض عنه فضلاً عن الإقبال عليه، فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها، وعلى مطلق الزيادة بتضمنها، وهي من وادي قوله صلى الله عليه وسلم:"من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" وختام الآية بقوله: {واتقوا الله} أي الملك الأعظم {لعلكم تفلحون} مشير إلى ذلك، أي و اجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا وقاية بالإعراض عن مطلق محبة الدنيا والإقبال عليها، لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب، فمن له ملك الوجود وملكه فإنه دير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم، ويمنعكم إن تساهلتم، فهو نهي عن الربا بصريح العبارة، وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم قبل انفصال الحرب فعلاً وقوة بطريق الإشارة...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{يا أيها الذين آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الربا} كلامٌ مبتدأٌ مشتمِلٌ على ما هو مَلاكُ الأمرِ في كل باب لاسيما في باب الجهادِ من التقوى والطاعةِ وما بعدهما من الأمور المذكورةِ على نهج الترغيبِ والترهيبِ جيء به في تضاعيفِ القصةِ مسارعةً إلى إرشاد المخاطَبين إلى ما فيه، وإيذاناً بكمالِ وجوبِ المحافظةِ عليه فيما هم فيه من الجهاد، فإن الأمورَ المذكورةَ فيه مع كونها مناطاً للفوز في الدارين على الإطلاق عُمدةٌ في أمر الجهادِ، عليها يدورُ فلكُ النُّصرةِ والغلَبة، كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لما لقُوا ما لقُوا، ولعل إيرادَ النهي عن الربا في أثنائها لِما أن الترغيبَ في الإنفاق في السراء والضراءِ الذي عُمدتُه الإنفاقُ في سبيل الجهادِ متضمنٌ للترغيب في تحصيل المالِ فكان مظِنةَ مبادرةِ الناسِ طرق الاكتساب ومن جملتها الربا، فنُهوا عن ذلك، والمرادُ بأكله أخذُه، وإنما عُبر عنه بالأكل لما أنه مُعظم ما يقصَد بالأخذ، ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ، وقولُه عز وجل: {أضعافا مضاعفة} ليس لتقييد النهي به بل لمراعاةِ ما كانوا عليه ممن العادة توبيخاً لهم بذلك...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ومن باب الإشارة: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة} إما إشارة إلى الأمر بالتوكل على الله تعالى في طلب الرزق والانقطاع إليه، أو رمز إلى الأمر بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين من غير طلب نفع منهم، فقد ورد في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة، أو إيماء إلى عدم طلب الأجر على الأعمال بأن يفعلها محضاً لإظهار العبودية {واتقوا الله} من أكل الربا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] أي تفوزون بالحق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعملون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}. اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق. قال الرازي هنا: اعلم أن من الناس من قال: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا} وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها.
وقال القفال رحمه الله: يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك اهـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني: إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام: وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا: نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة.
قال: وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال. أقول: ويقوي رأي الأستاذ الإمام أن السياق كان من أول السورة إلى نحو سبعين آية في محاجة النصارى، ثم انتقل إلى اليهود ووردت قصة أحد وما فيها من العبر في سياق الكلام عن اليهود، ثم بعد انتهائها يعود الكلام إلى اليهود سيما فيما يتعلق بأمر المال والنفقات، فلا غروا إذا ذكر في أول الكلام في هذه الغزوة شيء يتعلق بذلك ولكل منهما مناسبة واشتباك بصلة المسلمين باليهود. والحرب مما يستعان عليه بالمال وحال اليهود فيه معلومة. والغرض من هذه الآية الحث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة والأمة والتنفير عن الطمع فيه، وشرّه أكل الربا أضعافا مضاعفة ولذلك قدم النهي عن هذا الشر على الأمر بذلك الخير تقديما للتخلية على التحلية فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} هذا أول ما نزل في تحريم الربا وآيات البقرة في الربا نزلت بعد هذه، بل هي آخر آيات الأحكام نزولا. والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهودة عند المخاطبين عند نزولها لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم... وحاصل المعنى لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا تضاعف بتأخير أجل الدين الذي هو رأس المال وزيادة المال ضعف ما كان كما كنتم تفعلون في الجاهلية فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك لما فيه من القسوة والبخل واستغلال ضرورة المعوز أو حاجته: {واتقوا الله} في أهل الحاجة والبؤس فلا تحملوهم من الدين هذه الأثقال التي ترزحهم وربما تخرب بيوتهم: {لعلكم تفلحون} في دنياكم بالتراحم والتعاون فتتحابون والمحبة أس السعادة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة -معركة أحد- والتعقيبات على وقائعها وأحداثها.. تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى، التي المعنا في مقدمة الحديث إليها. المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة.. يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله. وعن الإنفاق في السراء والضراء، والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون. وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة. وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة...
تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية؛ لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة: الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله؛ ورده كله إلى محور واحد: محور العبادة لله والعبودية له، والتوجه إليه بالأمر كله. والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها، وفي كل شأن من شؤونها، وفي كل جانب من جوانب نشاطها. ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني؛ وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله، كلما أسلفنا. والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق. ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية؛ وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب، والسيطرة على الأهواء والشهوات، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة.. فكلها قريب من قريب.. وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات، وكل توجيه من هذه التوجيهات، يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة، وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة! (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، واتقوا الله لعلكم تفلحون. واتقوا النار التي أعدت للكافرين. وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون).. ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا.. ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة. فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص، ويتداروا به، ليقولوا: إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة. أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة.. فليست أضعافا مضاعفة. وليست داخلة في نطاق التحريم! ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع، وليست شرطا يتعلق به الحكم. والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا -بلا تحديد ولا تقييد: (وذروا ما بقي من الربا).. أيا كان!
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف، لنقول: إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات. إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت، أيا كان سعر الفائدة. إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة. ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة. فهي عمليات متكررة من ناحية، ومركبة من ناحية أخرى. فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال. إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف. فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب. إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان. ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية- كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث -كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية- كما فصلنا ذلك أيضا -ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها، وتأثيره في مصائرها جميعا. والإسلام- وهو ينشىء الأمة المسلمة -كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية. وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف. فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ويتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى ممَّا في هذه السورة، فالجواب: أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيداً لتلك، ولم يكن النّهي فيها بالغاً ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حَرّم الله الربا وأن ثقيفاً قالوا: كيف ننهى عن الربا، وهو مثل البيع، ويكون وصف الربا ب {أضعافاً مضاعفة} نهياً عن الربا الفاحش وسَكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف، ثمّ نزلت الآية الَّتي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضاً بالمراباة عقب غزوة أحُد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة...
وقوله: {أضعافاً مضاعفة} حال من {الرّبا} والأضعاف جمع ضعف بكسر الضّاد وهو معادل الشيء في المقدار إذا كان الشيء ومماثله متلازمين، لا تقول: عندي ضعف درهمك، إذ ليس الأصل عندك، بل يحسن أن تقول: عندي درهمان، وإنَّما تقول: عندي درهم وضعفه، إذا كان أصل الدرهم عندك، وتقول: لك درهم وضِعفه، إذا فعلت كذا. والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف بأل نحو ضِعفُه، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجَمع كما هنا، وإذا عُرف الضعف بأل صحّ اعتبار العهد واعتبار الجنس، كقوله تعالى: {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} [سبأ: 37] فإن الجزاء أضعاف، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف. وقوله: {مضاعفة} صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التَّضعيف، وذلك أنّهم كانوا إذا دَاينوا أحداً إلى أجل داينوه بزيادة، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة، فيصير الضِعف ضعفاً، ويزيد، وهكذا، فيصدق بصورة أن يجعلوا الدّين مضاعفاً بمثله إلى الأجل، وإذا ازداد أجلاً ثانياً زاد مثل جميع ذلك، فالأضعاف من أوّل التداين للأجل الأوّل، ومضاعفتها في الآجال الموالية، ويصدُق بأن يداينوا بمراباة دون مقدار الدّين ثُمّ تزيد بزيادة الآجال، حتَّى يصير الدّين أضعافاً، وتصير الأضعاف أضعافاً، فإن كان الأوّل فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوماً: لأنّ شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرَى لحكاية الواقع، وإن كان الثَّاني فالحال واردة لقصد التشنيع وإراءة هذه العاقبة الفاسدة. وإذ قد كان غالب المدينين تستمرّ حاجتهم آجالاً طويلة، كان الوقوع في هذه العاقبة مطرّداً، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوماً كذلك إذ ليس القصد منها التقييدَ بل التشنيعَ، فلا يقتصر التَّحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافاً كثيرة، حتَّى يقول قائل: إذا كان الرّبا أقلّ من ضعف رأس المال فليس بمحرّم. فليس هذا الحال هو مصبّ النَّهي عن أكل الربا حتَّى يَتَوهَّم متوهّم أنَّه إن كان دون الضعف لم يكن حرَاماً. ويظهر أنَّها أوّل آية نزلت في تحريم الربا، وجاءت بعدها آية البقرة، لأن صيغة هذه الآية تناسب ابتداء التشريع، وصيغة آية البقرة تدلّ على أن الحكم قد تقرّر، ولذلك ذكر في تلك الآية عذابُ المستمرّ على أكل الرّبا. وذُكر غرور من ظنّ الرّبا مثل البيع، وقيل فيها {فمن جاءه موعظة من ربِّه فانتهى فله ما سلف} [البقرة: 275] الآية، كما ذكرناه آنفاً، فمفهوم القيد معطَّل على كُلّ حال. وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشَّريعة حملَ الأمَّة على مواساة غنيِّها محتاجَها احْتياجاً عارضاً موقّتاً بالقرض، فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصّدقة والسلفِ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها، وكذلك المعروف كُلّه، وذلك أن العادة الماضية في الأمم، وخاصّة العرب، أنّ المرء لا يتداين إلاّ لضرورة حياته، فلذلك كان حقّ الأمَّة مواساته. والمواساة يظهر أنَّها فرض كفاية على القادرين عليها، فهو غير الَّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعيْن والمتقارضين: للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلاّ أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية، لا باختلاف أحوال المتعاقدين، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف، ولو كان المستسلف غير محتاج، بل كان طالبَ سعة وإثراءٍ بتحريك المال الَّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك، وسمَح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتِّجارة ودين السَّلَم، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية. ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعدَ بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا، فيكون تحريم الرّبا، ولو كان قليلاً، مع تجويز الربح من التِّجارة والشركات، ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
لقد ابتدأ الله سبحانه وتعالى الآية بالنداء بقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا} لبيان أن أكل الربا ليس من شأن أهل الإيمان، وإنما هو من خواص أهل الكفر والعصيان، فإذا كان المشركون يأكلون الربا ويتقوون به، ويكاثرون أهل الإيمان بأموالهم التي اكتسبوها من السحت فليس لأهل الحق أن يجاورهم، بل عليهم أن يحرموه على أنفسهم، ولا يأكلوا إلا حلالا طيبا... وتحريم الربا في الإسلام لإيجاد نظام اقتصادي تمنع فيه الأزمات... ولذا قال سبحانه: {واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
قوله سبحانه: {أَضْعَافاً} و {مُّضَاعَفَةً} هو كلام اقتصادي على أحدث نظام، فالأضعاف هي: الشيء الزائد بحيث إذا قارنته بالأصل صار الأصل ضعيفاً، فعندما يكون أصل المال مائة -على سبيل المثال- وسيؤخذ عليها عشرون بالمائة كفائدة فيصبح المجموع مائة وعشرين. إذن فالمائة والعشرون تجعل المائة ضعيفة، هذا هو معنى أضعاف. فماذا عن معنى "مضاعفة "؟ إننا سنجد أن المائة والعشرين ستصبح رأس مال جديداً، وعندما تمر سنة ستأخذ فائدة على المائة وعلى العشرين أيضا، إذن فالأضعاف ضوعفت أيضاً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ربَّما كانت المناسبة أنَّ الأجواء التي تثيرها السورة هي حركة الإنسان في ساحة الصراع في كلّ حالٍ من أحوالها، وفي كلّ شأن من شؤونها، فمن النظام الجهادي الذي يجعل الإنسان يواجه التحدّي في حالات الخطر من أجل حماية الرسالة والرساليين، إلى النظام الأخلاقي الذي يواجه الإنسان فيه الموقف الحادّ في جهاد النفس من أجل حمايتها من الانحراف، وبذلك تكون المناسبة في ارتباط النشاط الإنساني في التشريع الإسلامي ببعضه البعض، باعتبار أنَّ الإنسان يمثِّل وحدةً تتكامل أجزاؤها في مختلف جوانب نشاطه الإنساني في حركة الحياة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
حول الارتباط بين الآيات القرآنية:
الآيات السابقة كما عرفت تحدثت حول معركة «أُحد» وحوادثها ووقائعها، والدروس والعبر المختلفة التي تعلمها منها المسلمون، غير أن هذه الآيات الثلاث، والآيات الست اللاحقة بها تحتوي على سلسلة من البرامج الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، ثمّ يستأنف القرآن بعد هذه الآيات التسع، حديثه حول معركة «أُحد» ووقائعها.
ويمكن أن يكون هذا النوع من الحديث والبيان مبعث استغراب ودهشة للبعض، إلاّ أن الانتباه إلى مبدأ أساسي يوضح حقيقة هذا الأمر، ويكشف الغطاء عن سر هذا الأُسلوب. وذلك المبدأ هو: إن القرآن ليس كتاباً كبقية الكتب ذات النمط الكلاسيكي الذي يعتمد نظام الفصول والأبواب الخاصة، بل هو كتاب نزل «نجوماً» وبصورة تدريجية طوال ثلاثة وعشرين عاماً، وذلك طبقاً للاحتياجات التربوية المختلفة، وفي أماكن وأزمنة مختلفة، فيوم حدثت معركة أُحد ووقائعها نزلت الآيات التي تتحدث عمّا يرتبط بهذه المعركة من برامج وقضايا حربية، ويوم كانت الحاجة تتطلب بيان بعض البرامج والتعاليم الاقتصادية كالموقف من الربا، أو بعض المسائل الحقوقية كأحكام الزوجية أو بعض القضايا التربوية والأخلاقية كالتوبة كانت تنزل الآيات التي تتناول هذه الأُمور.
فيستنتج من هذا أنه قد لا يوجد أي ارتباط خاص بين بعض الآيات وبين ما قبلها أو ما بعدها، وليس من الضروري أن نبحث عن مثل هذا الارتباط كما يحاول بعض المفسّرين ذلك أو أن نتكلف افتعال ذلك بين قضايا لم يرد الله سبحانه الاتصال والارتباط بينها، لأن مثل هذا العمل لا يتفق مع روح القرآن وكيفية نزوله في الحوادث المختلفة، والمناسبات المتنوعة وحسب الاحتياجات والظروف المنفصلة.
على أنه لا ريب في أن جميع السور والآيات القرآنية مرتبطة ومترابطة على وجه وهو أن جميعها تؤلف برنامجاً كاملاً ومنهاجاً متكاملاً مترابطاً لصنع الإنسان وصياغته، وتربيته بأفضل تربية وصياغة وأسماها، كما أنها بمجموعها نزلت لإيجاد مجتمع فاضل، واع متقدم في جميع الأبعاد والجوانب المادية والمعنوية.
وبما قلناه يعلل عدم ارتباط الآيات التسع التي أشرنا إليها مع ما تقدمها أو يلحقها من الآيات في هذه السورة المباركة.
كلنا يعرف أن أُسلوب القرآن في مكافحة الانحرافات الاجتماعية المتجذرة في حياة الناس يعتمد معالجة الأُمور خطوة فخطوة، فهو أولاً يهيئ الأرضية المناسبة، ويُطلع الرأي العام على مفاسد ما يطلب محاربته ومكافحته، ثمّ بعد أن تتهيأ النفوس لتقبل التحريم النهائي يعلن عن التحريم في صيغته القانونية النهائية (ويتبع هذا الأُسلوب خاصة إذا كان ذلك الأمر الفاسد ممّا استشرى في المجتمع، وكانت رقعة انتشاره واسعة).
كما أننا نعلم أيضاً أن المجتمع العربي في العهد الجاهلي كان مصاباً بشدة بداء الربا، حيث كانت الساحة العربية (وخاصة مكة) مسرحاً للمرابين. و قد كان هذا الأمر مبعثاً للكثير من المآسي الاجتماعية، ولهذا استخدم القرآن في تحريم هذه الفعلة النكراء أُسلوب المراحل، فحرم الربا في مراحل أربع:
يكتفي في الآية 39 من سورة الروم بتوجيه نصح أخلاقي حول الربا إذ قال سبحانه وتعالى: (وما أتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعِفون).
بهذا يكشف عن خطأ الذين يتصورون أن الربا يزيد من ثروتهم، في حين أن إعطاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله هو الذي يضاعف الثروة.
يشير ضمن انتقاد عادات اليهود وتقاليدهم الخاطئة الفاسدة إلى الربا كعادة سيئة من تلك العادات، إذ يقول في الآية 161 من سورة النساء: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه).
يذكر في الآية الحاضرة كما سيأتي تفسيرها المفصل حكم التحريم بصراحة، ولكنه يشير إلى نوع واحد من أنواع الربا، وهو النوع الشديد والفاحش منه فقط.
وأخيراً أعلن في الآيات 275 إلى 279 من سورة البقرة عن المنع الشامل والشديد عن جميع أنواع الربا، واعتباره بمنزلة إعلان الحرب على الله سبحانه.
قلنا إن الآية الحاضرة إشارة إلى الربا الفاحش معبرة عن ذلك بقوله (أضعافا مضاعفة).
والمراد من «الربا الفاحش» هو أن تكون الزيادة الربوية تصاعدية، بمعنى أن تُضم الزيادة المفروضة أولاً على رأس المال ثمّ يصبح المجموع مورداً للربا، بمعنى أن الزيادة ثانياً تقاس بمجموع المبلغ (الذي هو عبارة عن رأس المال والزيادة المفروضة في المرة الأُولى) ثمّ تضم الزيادة المفروضة ثانياً إلى ذلك المبلغ، وتفرض زيادة ثالثة بالنسبة إلى المجموع.
وهكذا يصبح مجموع رأس المال والزيادة في كلّ مرّة رأس مال جديد تضاف عليه زيادة جديدة بالنسبة، وبهذا يبلغ الدين أضعاف المبلغ الأصلي المدفوع إلى المديون حتّى يستغرق كلّ ماله.
ولهذا قال القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة).
ويستفاد من الأخبار والروايات أن الرجل في الجاهلية إذا كان يتخلف عن أداء دينه عند الموعد المقرر طلب من الدائن أن يضيف الزيادة على المبلغ ثمّ يؤخره إلى أجل آخر، وهكذا حتّى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون.
وهذا هو السائد بعينه في عصرنا الحاضر ويفعله المرابون الكبار دون رحمة.
ولاشكّ أن مثل هذا الفعل يدر على أصحاب الأموال مبالغ ضخمة دون عناء، فلا يمكن الارتداع عنه إلا بتقوى الله، ولهذا عقب سبحانه نهيه عن مثل هذا الربا الظالم بقوله: (واتقوا الله لعلكم تفلحون).