وقبل أن يعرض للقوم وموقفهم من هذا الكتاب ؛ يشير إلى آيات الله المبثوثة في الكون من حولهم . وقد كانت وحدها كفيلة بتوجيههم إلى الإيمان . ويوجه قلوبهم إليها لعلها توقظها وتفتح مغاليقها ، وتستجيش فيها الحساسية بالله منزل هذا الكتاب ، وخالق هذا الكون العظيم :
( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) . .
والآيات المبثوثة في السماوات والأرض لا تقتصر على شيء دون شيء ، ولا حال دون حال . فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب . .
هذه السماوات بأجرامها الضخمة ، وأفلاكها الهائلة ، وهي - على ضخامتها - مبعثرة كالنثار الصغير في الفضاء . . الفضاء الهائل الرهيب . . الجميل . . !
ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة واطراد وتناسق . . تناسق جميل لا تشبع العين من النظر إليه ، ولا يشبع القلب من تمليه !
وهذه الأرض الواسعة العريضة بالقياس إلى البشر ، وهي ذرة ، أو هباءة بالقياس إلى النجوم الكبيرة . ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تتوه فيه . . تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنتظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه !
وما أودعه الله طبيعة هذه الأرض في موقعها الكوني الخاص من صلاحية لنشوء الحياة فوقها ، ومن خصائص دقيقة مقصودة متراكبة متجمعة متناسقة . لو اختلت خصيصة واحدة منها أو تخلفت ما أمكن أن تقوم فيها الحياة أو تدوم !
وكل شيء في هذه الأرض وكل حي . . آية . . وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض . . آية . . والصغير الدقيق كالضخم الكبير . . آية . . هذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة . . آية . . آية في شكلها وحجمها ، آية في لونها وملمسها . آية في وظيفتها وتركيبها . وهذه الشعرة في جسم الحيوان أو الإنسان . . آية . . آية في خصائصها ولونها وحجمها . وهذه الريشة في جناح الطائر . . آية . . آية في مادتها وتنسيقها ووظيفتها . وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت ، وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره .
ولكن ، من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها ? لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها ? لمن ?
فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والأنداء ؛ والإحساس بما فيها من آيات الله المبثوثة في الأرض والسماء . والإيمان هو الذي تخالط القلوب بشاشته فتحيا وترق وتلطف ؛ وتلتقط ما يذخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة ، تشير كلها إلى اليد الصانعة ، وطابعها المميز في كل ما تصوغه وتبدعه من أشياء ومن أحياء . وكل ما خرج من هذه اليد فهو خارق معجز لا يقدر على إبداعه أحد من خلق الله .
{ إن في السموات والأرض . . . } اشتملت هذه الآيات الثلاث على ستة أدلة كونية : خلق السموات والأرض ؛ والمتأمل فيهما يعلم أنه لا بد لهما من صانع حكيم ، فيؤمن به . وخلق الإنسان وانتقاله في أطواره . وخلق ما على الأرض من صنوف الحيوان ؛ والمتأمل فيهما وفي ارتباط تكونهما بالعالم العلوي يصل بالتأمل إلى مرتبة اليقين ، والحوادث المتجددة في كل وقت من اختلاف الليل والنهار ، ونزول الأمطار الذي به حياة الأرض بالنبات ، وتقلب الرياح وآثارها في البر والبحر ؛ والتأمل فيها يؤدي إلى استحكام العلم وقوة اليقين ، وذلك لا يكون إلا بالعقل الكامل ؛ ولذا ختمت كل آية بما يناسب ما سبق فيها من الدليل .
قوله تعالى : " إن في السماوات والأرض " أي في خلقهما " لآيات للمؤمنين ، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق " يعني المطر . " فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون " تقدم جميعه مستوفى في " البقرة " وغيرها{[13771]} . وقراءة العامة وما يبث من دابة آيات " " وتصريف الرياح آيات " بالرفع فيهما . وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما . ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم " إن " وخبرها " في السموات " . ووجه الكسر في " آيات " الثاني العطف على ما عملت فيه ، التقدير : إن في خلقكم وما يبث من دابة آيات . فأما الثالث فقيل : إن وجه النصب فيه تكرير " آيات " لما طال الكلام ، كما تقول : ضرب زيدا زيدا . وقيل : إنه على الحمل على ما عملت فيه " إن " على تقدير حذف " في " . التقدير : وفي اختلاف الليل والنهار آيات . فحذفت " في " لتقدم ذكرها . وأنشد سيبويه في الحذف :
أكلَّ امرئٍ تحسبين امرَأً *** ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نَارَا{[13772]}
فحذف " كل " المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها . وقيل : هو من باب العطف على عاملين . ولم يجزه سيبوبه ، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين ، فعطف " واختلاف " على قوله : ( وفي خلقكم ) ثم قال : ( وتصريف الرياح آيات ) فيحتاج إلى العطف على عاملين ، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل ، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين ؛ إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال . وأما قراءة الرفع فحملا على موضع " إن " مع ما عملت فيه . وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين ؛ لأنه عطف " واختلاف " على " وفي خلقكم " ، وعطف " آيات " على موضع " آيات " الأول ، ولكنه يقدر على تكرير " في " . ويجوز أن يرفع على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء ، وما قبله خبره ، ويكون عطف جملة على جملة . وحكى الفراء رفع " واختلاف " و " آيات " جميعا ، وجعل الاختلاف هو الآيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.