ثم يكمل دعاء نوح الأخير ؛ وابتهاله إلى ربه في نهاية المطاف :
( وقال نوح : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا . رب اغفر لي ولوالدي ، ولمن دخل بيتي مؤمنا ، وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا ) . .
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص الذي انتهى إليه القوم في زمانه . وأحيانا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين ، لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائيا ، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين . وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح ، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازا كاملا لا يبقي منهم ديارا - أي صاحب ديار - فقال : ( إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ) . . ولفظة( عبادك )توحي بأنهم المؤمنون . فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضع بهذا المعنى . وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة ، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافية !
ثم إنهم يوجدون بيئة وجوا يولد فيها الكفار ، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار ، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون ، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور ، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها . وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام ، وحكاها عنه القرآن : ( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) . . فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل ، وينشئون عادات وأوضاعا ونظما وتقاليد ، ينشأ معها المواليد فجارا كفارا ، كما قال نوح . .
قوله تعالى : " وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين "
الأولى- دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه . وقال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه : " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن{[15409]} " [ هود : 36 ] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم منزل الكتاب سريع الحساب{[15410]} وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم ) . وقيل : سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال : ( احذر هذا فإنه يضلك ) . فقال : يا أبت أنزلني ، فأنزله فرماه فشجه ، فحينئذ غضب ودعا عليهم . وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم . وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة . وقيل : بأربعين . قال قتادة : ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب . وقال الحسن وأبو العالية : لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم ، ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب ، ثم أهلكهم بالعذاب ، بدليل قوله تعالى : " وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم{[15411]} " [ الفرقان : 37 ] .
الثانية- قال ابن العربي : " دعا نوح على الكافرين أجمعين ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم . وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة ، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة . وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما ؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم . والله أعلم " .
قلت : قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة " البقرة{[15412]} " والحمد لله .
الثالثة- قال ابن العربي : " إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة ؟ قلنا : قال الناس في ذلك وجهان : أحدهما : أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة ، والشفاعة تكون عن رضا ورقة ، فخاف أن يعاتب ويقال : دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم . الثاني : أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك ، فخاف الدَّرَك{[15413]} فيه يوم القيامة ، كما قال موسى عليه السلام : ( إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ) . قال : وبهذا أقول " .
قلت : وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له : " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " [ هود : 36 ] . فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك ، كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال : ( اللهم عليك بهم ) لما أعلم عواقبهم ، وعلى هذا يكون فيه معنى الأمر بالدعاء . والله أعلم .
الرابعة- قوله تعالى : " ديارا " أي من يسكن الديار ، قاله السدي . وأصله دَيْوار على فَيْعال من دار يدور ، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى . مثل القيّام ، أصله قَيْوام . ولو كان فعالا لكان دوارا . وقال القتبي : أصله من الدار ، أي نازل بالدار . يقال : ما بالدار ديار ، أي أحد . وقيل : الديار صاحب الدار .
ولما أتم الخبر عن إغراقهم ، وقدمه للاهتمام بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابة دعوته تحذيراً للعرب أن يخرجوا رسولهم صلى الله عليه وسلم فيخرجوه{[68855]} إلى مثل ذلك ، عطف{[68856]} على قول نوح عليه السلام من أوله قوله عندما أخبره تعالى أنهم مغرقون وأنه لا يؤمن منهم إلا من قد آمن بعدما{[68857]} طال بلاؤه بهم حتى إن كان الرجل ليأتي بابنه إليه فيقول له : احذر هذا أن يضلك ، وإن أبي حذر به ، وكانت صيغة العموم ليست{[68858]} بنص في أفرادها أبداً{[68859]} ، استنجازاً لوعده وتصريحاً بمراده : { وقال نوح } وأسقط الأداة كما هي عادة أهل الحضرة فقال : { رب{[68860]} لا تذر } أي تترك بوجه {[68861]}من الوجوه{[68862]} أصلاً ولو على أدنى الوجوه { على الأرض } أي كلها {[68863]}من مشرقها إلى مغربها وسهلها وجبلها ووهدها{[68864]} { من الكافرين } أي الراسخين في{[68865]} الكفر{[68866]} الذي هو كان لهم جبلة وطبعاً{[68867]} { دياراً * } أي أحداً يدور فيها ، وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي العام فيقال من الدور أو الدار لا فعّال ، وإلا لكان دواراً ، ويجوز - وهو أقرب{[68868]} - أن يكون هذا الدعاء عند ركوبه السفينة وابتداء الإغراق فيهم ، يريد{[68869]} به العموم كراهية{[68870]} أن يبقى أحد منهم على ذروة جبل أو نحوه ، لا أصل الإغراق ، وأن يكون معنى ما قبله الحكم بإغراقهم وتحتم القضاء به أو الشروع فيه{[68871]} .