( ولمن انتصر بعد ظلمه ، فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق . أولئك لهم عذاب أليم ) . .
فالذي ينتصر بعد ظلمه ، ويجزي السيئة بالسيئة ، ولا يعتدي ، ليس عليه من جناح . وهو يزاول حقه المشروع . فما لأحد عليه من سلطان . ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد . إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق . فإن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه ؛ وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه .
{ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي : انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه { فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } أي : لا حرج عليهم في ذلك .
ودل قوله : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ } وقوله : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أنه لا بد من إصابة البغي والظلم ووقوعه .
وأما إرادة البغي على الغير ، وإرادة ظلمه من غير أن يقع منه شيء ، فهذا لا يجازى بمثله ، وإنما يؤدب تأديبا يردعه عن قول أو فعل صدر منه .
الرابعة- قوله تعالى : " ولمن انتصر بعد ظلمه " أي المسلم إذا انتصر من الكافر فلا سبيل إلى لومه ، بل يحمد على ذلك مع الكافر . ولا لوم إن انتصر الظالم من المسلم ، فالانتصار من الكافر حتم ، ومن المسلم مباح ، والعفو مندوب .
الخامسة- في قوله تعالى : " فأولئك ما عليهم من سبيل " دليل على أن له أن يستوفي ذلك بنفسه . وهذا ينقسم ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون قصاصا في بدن يستحقه آدمي ، فلا حرج عليه إن استوفاه من غير عدوان وثبت حقه عند الحكام ، لكن يزجره الإمام في تفوته بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدم . وإن كان حقه غير ثابت عند الحاكم فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج ، وهو الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ ومعاقب . القسم الثاني : أن يكون حد الله تعالى لاحق لآدمي فيه كحد الزنى وقطع السرقة ، فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه ، وإن ثبت عند حاكم نظر ، فإن كان قطعا في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه ، ولم يجب عليه في ذلك حق لأن التعزير أدب ، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد لتعديه مع بقاء محله فكان مأخوذا بحكمه . القسم الثالث : أن يكون حقا في مال ، فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان ممن هو عالم به ، وإن كان غير عالم نظر ، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه . وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه من عدم بينة تشهد له ففي جواز استسراره بأخذه مذهبان : أحدهما : جوازه ، وهو قول مالك والشافعي . الثاني : المنع ، وهو قول أبي حنيفة .
ولما كان هذا ساداً لباب الانتصار لما يشعر به من أنه ظلم على كل ، قال مؤكداً نفياً لهذا الإشعار : { ولمن انتصر } أي سعى في نصر نفسه بجهده { بعد ظلمه } أي بعد ظلم الغير له وليس قاصد البعد عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان البعد .
ولما بين تعالى ما لذلك الناظر في مصالح العباد المنسلخ من خط نفسه إحساناً إلى عباد الله من الرتبة العليا ، بين ما لهذا الذاب عن نفسه القاصد لشفاء صدره وذهاب غيظه ، فقال رابطاً للجزاء بفاء السبب بياناً لقصور نظره على دفع الظلم عن نفسه ، ويجوز كون { من } موصولة والفاء لما للموصول من شبه الشرط .
ولما عبر أولاً بالإفراد فكان ربما قصر الإذن على الواحد لئلا تعظم الفتنة ، جمع إشارة إلى أن الفتنة إنما هي في إقرار الظلم لا في نصر المظلوم واحداً كان أو جماعة فقال : { فأولئك } أي المنتصرون لأجل دفع ظلم الظالم عنهم فقط { ما عليهم } وأكد بإثبات الجار فقال : { من سبيل * } أي عقاب ولا عتاب ، وروى النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب رضي الله عنها بغير إذن وهي غضبى ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : دونك فانتصري ، فأقبلت عليها حتى رأيتها قد يبس ريقها في فيها ما ترد عليّ شيئاً ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه " .
قوله : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } { ظُلمه } مصدر مضاف إلى المفعول . أي بعد أن ظلمه الظالم له ، أو بعد أن ظَلَمَه ظالمه . واللام لام الابتداء . ومن شرطية ، وجواب الشرط { فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } أي ليس عليهم من مؤاخذة أو جُناح في الانتصار ممن ظلمهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.