وبعد هذه الوقفة للوزن والتقويم يمضي في عرض ما هم فيه من متناقضات :
( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين . فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) . .
وهذا كذلك من التناقض والاضطراب . فهم إذا ركبوا في الفلك ؛ وأصبحوا على وجه اليم كاللعبة تتقاذفها الأمواج ؛ لم يذكروا إلا الله . ولم يشعروا إلا بقوة واحدة يلجأون إليها هي قوة الله . ووحدوه في مشاعرهم وعلى ألسنتهم سواء ؛ وأطاعوا فطرتهم التي تحس وحدانية الله : ( فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون )ونسوا وحي الفطرة المستقيم ونسوا دعاءهم لله وحده مخلصين له الدين وانحرفوا إلى الشرك بعد الإقرار والتسليم !
ثم ألزم تعالى المشركين بإخلاصهم للّه تعالى ، في حالة{[634]} الشدة ، عند ركوب البحر وتلاطم أمواجه وخوفهم الهلاك ، يتركون إذا أندادهم ، ويخلصون الدعاء للّه وحده لا شريك له ، فلما زالت عنهم الشدة ، ونجى{[635]} من أخلصوا له الدعاء إلى البر ، أشركوا به من لا نجاهم من شدة ، ولا أزال{[636]} عنهم مشقة .
فهلا أخلصوا للّه الدعاء في حال الرخاء والشدة ، واليسر والعسر ، ليكونوا مؤمنين به حقا ، مستحقين ثوابه ، مندفعا عنهم عقابه .
ولما ختم هذه الآية بما أفهم أنهم لا يعلمون ، والتي قبلها بأن أكثرهم لا يعقلون ، سبب عن ذلك قوله : { فإذا } أي فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا { ركبوا } أي البحر { في الفلك } أي السفن { دعوا الله } أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء إذا أصابتهم مصيبة خافوا منها الهلاك { مخلصين } بالتوحيد { له الدين* } بالإعراض عن شركائهم بالقلب واللسان ، لما هم له محققون أنه لا منجى عند تلك الشدائد غيره { فلما نجّاهم } أي الله سبحانه ، موصلاً لهم { إلى البر إذا هم } أي حين الوصول إلى البر { يشركون* } فصح أنهم لا يعلمون ، لأنهم لا يعقلون ، حيث يقرون بعجز آلهتهم ويشركونها معه ، ففي ذلك أعظم التهكم بهم ؛ قال البغوي : قال عكرمة : كانوا إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام ، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب ! يا رب .
وقال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان ، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء - انتهى . فعلم أن الاشتغال بالدنيا هو الصادّ عن كل خير وأن الانقطاع عنها معين للفطرة الأولى المستقيمة ، ولهذا نجد الفقراء أقرب إلى كل خير .
قوله : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ذلك وصف حقيقي كامل لخلق المشركين وحقيقة حالهم وهم راكبون السفن وسط البحر الهادر المتلاطم حتى إذا أخذت السفن تتأرجح بهم وتضطرب فتوشك أن تهوي أو تغرق أخذتهم غاشية داهمة مفرطة من الفزع والإياس والذهول ، وحينئذ يتجردون من شركهم المفترى ؛ ويتبرءون من أصنامهم ووثنيتهم الضالة العمياء ، ويجأرون إلى الله بالدعاء ؛ أن ينقذهم من الموت المحدق ، موقنين أن أصنامهم لا تجديهم نفعا ولا تملك لهم نجاة ولا خلاصا ، وإنما ينجيهم الله وحده ، خالق كل شيء ، فهم في هذه الساعة العصيبة الرهيبة التي يوشك فيها أن يحاط بهم فيهلكوا ، أخلصوا لله الدعاء وأفردوه بالوحدانية وأذعنوا له بالعبودية والاستسلام والاستغاثة دون آلتهم المصطنعة المزيفة .
وقد ذكر في هذا الصدد عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارّا منها ، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة فقال أهلها : يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء ؛ فإنه لا ينجي ههنا إلا هو . فقال عكرمة : والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره ؛ فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره . اللهم لك عليّ عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد فلأجدنه رءوفا رحيما . فكان كذلك .
قوله : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } لما كتب الله لهم السلامة وأنجاهم من الموت المحدق ، فخلصوا إلى البر آمنين سالمين بعون الله وفضله ورحمته بادروا الإشراك بالله ونسيان ما مَنّ الله به عليهم من التنجية والتسليم . وقيل : إشراكهم أن يقول قائلهم : لولا الله والرئيس أو الملك أو الملاح الفلاني لغرقنا أو أهلكنا . فهم بذلك يجعلون ما كتب الله لهم من النجاة قسمة بين الله وبين عباده . وإنما الله وحده هو المنجي وهو المنان الذي سبقت قدرته وإرادته كل أفعال المخاليق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.