يسدل الستار على ذلك المشهد ليرفعه عن مشهد آخر ، في ظل آخر ، وفي جو آخر ، له عطر آخر تستروح له الأرواح وتخفق له القلوب . إنه مشهد المؤمنين . مشهدهم خاشعين مخبتين عابدين ، داعين إلى ربهم وقلوبهم راجفة من خشية الله ، طامعة راجية في فضل الله . وقد ذخر لهم ربهم من الجزاء ما لا يبلغ إلى تصوره خيال :
( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم ، وهم لا يستكبرون . تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، يدعون ربهم خوفا وطمعا ، ومما رزقناهم ينفقون . فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، جزاء بما كانوا يعملون ) . .
وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة ، اللطيفة ، الشفيفة الحساسة المرتجفة من خشية الله وتقواه ، المتجهة إلى ربها بالطاعة المتطلعة إليه بالرجاء ، في غير ما استعلاء ولا استكبار . هذه الأرواح هي التي تؤمن بآيات الله ، وتتلقاها بالحس المتوفز والقلب المستيقظ والضمير المستنير .
هؤلاء إذا ذكروا بآيات ربهم ( خروا سجدا )تأثرا بما ذكروا به ، وتعظيما لله الذي ذكروا بآياته ، وشعورا بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل ، تعبيرا عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب ( وسبحوا بحمد ربهم ) . مع حركة الجسد بالسجود . ( وهم لا يستكبرون ) . . فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال .
{ 15 - 17 } { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
لما ذكر تعالى الكافرين بآياته ، وما أعد لهم من العذاب ، ذكر المؤمنين بها ، ووصفهم ، وما أعد لهم من الثواب ، فقال : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } [ أي ]{[683]} إيمانًا حقيقيًا ، من يوجد منه شواهد الإيمان ، وهم : { الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا } بآيات ربهم فتليت عليهم آيات القرآن ، وأتتهم النصائح على أيدي رسل اللّه ، ودُعُوا إلى التذكر ، سمعوها فقبلوها ، وانقادوا ، و { خَرُّوا سُجَّدًا } أي : خاضعين لها ، خضوع ذكر للّه ، وفرح بمعرفته .
{ وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } لا بقلوبهم ، ولا بأبدانهم ، فيمتنعون من الانقياد لها ، بل متواضعون لها ، قد تلقوها بالقبول ، والتسليم ، وقابلوها بالانشراح والتسليم ، وتوصلوا بها إلى مرضاة الرب الرحيم ، واهتدوا بها إلى الصراط المستقيم .
ولما كان قوله تعالى : { بل هم بلقاء ربهم كافرون } قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر ، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين ، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران ، فقال معرفاً أن المجرمين لا سبيل إلى إيمانهم{ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }[ الأنعام : 28 ] : { إنما يؤمن بآياتنا } الدالة على عظمتنا { الذين إذا ذكروا بها } من أيّ مذكر كان ، في أيّ وقت كان ، قبل كشف الغطاء وبعده { خروا سجداً } أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد ، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً { وسبحوا } أي أوقعوا التنزيه عن كل شائبة نقص من ترك البعث المؤدي إلى تضييع الحكمة ومن غيره متلبسين{[54763]} { بحمد } {[54764]}ولفت الكلام إلى الصفة المقتضية لتنزيههم وحمدهم تنبيهاً لهم فقال{[54765]} : { ربهم } أي بإثباتهم له الإحاطة بصفات الكمال ، ولما تضمن هذا تواضعهم ، صرح به في قوله : { وهم لا يستكبرون } أي لا يجددون طلب الكبر عن شيء مما دعاهم إليه {[54766]}الهادي ولا يوجدونه{[54767]} خلقاً لهم راسخاً في ضمائرهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.