في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا ٱلظِّلُّ وَلَا ٱلۡحَرُورُ} (21)

15

ولن يستوي عند الله الإيمان والكفر ، والخير والشر ، والهدى والضلال ؛ كما لا يستوي العمى والبصر ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والحياة والموت ، وهي مختلفة الطبائع من الأساس :

وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظلمات ولا النور . ولا الظل ولا الحرور . وما يستوي الأحياء ولا الأموات . .

وبين طبيعة الكفر وطبيعة كل من العمى والظلمة والحرور والموت صلة . كما أن هناك صلة بين طبيعة الإيمان وطبيعة كل من النور والبصر والظل والحياة . .

إن الإيمان نور ، نور في القلب ونور في الجوارح ، ونور في الحواس . نور يكشف حقائق الأشياء والقيم والأحداث وما بينها من ارتباطات ونسب وأبعاد . فالمؤمن ينظر بهذا النور ، نور الله ، فيرى تلك الحقائق ، ويتعامل معها ، ولا يخبط في طريقه ولا يلطش في خطواته !

والإيمان بصر ، يرى . رؤية حقيقية صادقة غير مهزوزة ولا مخلخلة . ويمضي بصاحبه في الطريق على نور وعلى ثقة وفي اطمئنان .

والإيمان ظل ظليل تستروحه النفس ويرتاح له القلب ، ظل من هاجرة الشك والقلق والحيرة في التيه المظلم بلا دليل !

والإيمان حياة . حياة في القلوب والمشاعر . حياة في القصد والاتجاه . كما أنه حركة بانية . مثمرة . قاصدة . لا خمود فيها ولا همود . ولا عبث فيها ولا ضياع .

والكفر عمى . عمى في طبيعة القلب . وعمى عن رؤية دلائل الحق . وعمى عن رؤية حقيقة الوجود . وحقيقة الإرتباطات فيه . وحقيقة القيم والأشخاص والأحداث والأشياء .

والكفر ظلمة أو ظلمات . فعندما يبعد الناس عن نور الإيمان يقعون في ظلمات من شتى الأنواع والأشكال . ظلمات تعز فيها الرؤية الصحيحة لشيء من الأشياء .

والكفر هاجرة . حرور . تلفح القلب فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف ، وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير . ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب هناك !

والكفر موت . موت في الضمير . وانقطاع عن مصدر الحياة الأصيل . وانفصال عن الطريق الواصل .

وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي ، المؤثرين في سير الحياة !

ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ، ولن يستوي عند الله هذا وذاك .

وهنا يلتفت إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يعزيه ويسري عنه ، بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة الله . وترك ما تبقى بعد ذلك لصاحب الأمر يفعل به ما يشاء :

( إن الله يسمع من يشاء ، وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير . إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير . ثم أخذت الذين كفروا . فكيف كان نكير ? ) . .

إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس . واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ، والظل والحرور ، والظلمات والنور ، والحياة والموت . ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته . وقدرته على ما يشاء .

   
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَلَا ٱلظِّلُّ وَلَا ٱلۡحَرُورُ} (21)

" ولا الظلمات ولا النور " قال الأخفش سعيد : " لا " زائدة ، والمعنى ولا الظلمات والنور ، ولا الظل والحرور . قال الأخفش : والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار ، والسموم يكون بالليل ، أو قيل بالعكس . وقال رؤبة بن العجاج : الحرور تكون بالنهار خاصة ، والسموم يكون بالليل خاصة ، حكاه المهدوي . وقال الفراء : السموم لا يكون إلا بالنهار ، والحرور يكون فيهما . النحاس : وهذا أصح ؛ لأن الحرور فعول من الحر ، وفيه معنى التكثير ، أي الحر المؤذي .

قلت : وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قالت النار رب أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس ، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم ، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم ) . وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة : ( فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها ) وهذا يجمع تلك الأقوال ، وأن السموم والحرور يكون بالليل والنهار ، فتأمله . وقيل : المراد بالظل والحرور الجنة والنار ، فالجنة ذات ظل دائم ، كما قال تعالى : " أكلها دائم وظلها " {[13139]} [ الرعد : 35 ] والنار ذات حرور ، وقال معناه السدي . وقال ابن عباس : أي ظل الليل ، وحر السموم بالنهار . قطرب : الحرور الحر ، والظل البرد .


[13139]:راجع ج 9 ص 324.