سورة الدخان مكية وآياتها تسع وخمسون
يشبه إيقاع هذه السورة المكية ، بفواصلها القصيرة ، وقافيتها المتقاربة ، وصورها العنيفة ، وظلالها الموحية . . يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة .
ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة ، ذات محور واحد ، تشد إليه خيوطها جميعاً . سواء في ذلك القصة ، ومشهد القيامة ، ومصارع الغابرين ، والمشهد الكوني ، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة . فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة ، كما يبثها هذا القرآن في القلوب .
وتبدأ السورة بالحديث عن القرآن وتنزيله في ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم ، رحمة من الله بالعباد وإنذاراً لهم وتحذيراً . ثم تعريف للناس بربهم : رب السماوات والأرض وما بينهما ، وإثبات لوحدانيته وهو المحيي والمميت رب الأولين والآخرين .
ثم يضرب عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم : ( بل هم في شك يلعبون ) ! ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ) . . ودعاءهم بكشف العذاب عنهم وهو يوم يأتي لا يكشف . وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد ، وهو الآن عنهم مكشوف ، فلينتهزوا الفرصة ، قبل أن يعودوا إلى ربهم ، فيكون ذلك العذاب المخوف : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) . .
ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ومشهد البطشة الكبرى والانتقام ؛ ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه يوم جاءهم رسول كريم ، وناداهم : أن أدوا إليَّ عباد الله إني لكم رسول أمين . وألا تعلوا على الله . . فأبوا أن يسمعوا حتى يئس منهم الرسول . ثم كان مصرعهم في هوان بعد الاستعلاء والاستكبار : ( كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين . كذلك وأورثناها قوماً آخرين . فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) . .
وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة ، وقولهم : ( إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين ، فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين )ليذكرهم بمصرع قوم تبع ، وما هم بخير منهم ليذهبوا ناجين من مثل مصيرهم الأليم .
ويربط بين البعث ، وحكمة الله في خلق السماوات والأرض ، ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين . ما خلقناهما إلا بالحق . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
ثم يحدثهم عن يوم الفصل : ( ميقاتهم أجمعين ) . وهنا يعرض مشهداً عنيفاً للعذاب بشجرة الزقوم ، وعتل الأثيم ، وأخذه إلى سواء الجحيم ، يصب من فوق رأسه الحميم . مع التبكيت والترذيل : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم . إن هذا ما كنتم به تمترون ) . .
وإلى جواره مشهد النعيم عميقاً في المتعة عمق مشهد العذاب في الشدة . تمشياً مع ظلال السورة العميقة وإيقاعها الشديد . .
وتختم السورة بالإشارة إلى القرآن كما بدأت : ( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ) . . وبالتهديد الملفوف العنيف : ( فارتقب إنهم مرتقبون ) .
إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها ، في إيقاع سريع متواصل . تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع . وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض ، والدنيا والآخرة ، والجحيم والجنة ، والماضي والحاضر ، والغيب والشهادة ، والموت والحياة ، وسنن الخلق ونواميس الوجود . . فهي - على قصرها نسبياً - رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود . .
( حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم . رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين . لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين ) . .
تبدأ السورة بالحرفين حا . ميم . على سبيل القسم بهما وبالكتاب المبين المؤلف من جنسهما . وقد تكرر الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور ؛ فأما عن القسم بهذه الأحرف كالقسم بالكتاب ، فإن كل حرف معجزة حقيقية أو آية من آيات الله في تركيب الإنسان ، وإقداره على النطق ، وترتيب مخارج حروفه ، والرمز بين اسم الحرف وصوته ، ومقدرة الإنسان على تحصيل المعرفة من ورائه . . وكلها حقائق عظيمة تكبر في القلب كلما تدبرها مجرداً من وقع الألفة والعادة الذي يذهب بكل جديد !
سورة الدخان مكية ، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وآياتها 59 آية ، نزلت بعد سورة الزخرف ، وقد سميت سورة الدخان لقوله تعالى فيها : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } . ( الدخان : 10 ) .
معظم مقصود سورة الدخان هو : نزول القرآن في ليلة القدر ، وآيات التوحيد ، والشكاية من الكفار ، وحديث موسى وبني إسرائيل وفرعون ، والرد على منكري البعث ، وذل الكفار في العقوبة ، وعز المؤمنين في الجنة ، والمنة على الرسول بتيسير القرآن على لسانه في قوله تعالى : { فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } . ( الدخان : 58 ) .
سورة الدخان سورة يكثر المسلمون قراءتها ، خصوصا ليلة النصف من شعبان ، وليلة القدر في رمضان ، وليلة الجمعة ، وهي تبدأ ببيان أن القرآن أنزل من السماء في ليلة مباركة ، يحمل الرحمة والهدى من رب العالمين ، ثم تنذر المشركين بالعذاب ، وتذكر طرفا من قصة موسى مع فرعون ، ثم تذكر مشاهد القيامة ، وفيها نعيم المتقين ، وعقاب المشركين .
ومن السنة قراءة سورة الدخان ليلة الجمعة لتثبيت الإيمان وتقوية اليقين بقدرة الله رب العالمين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ حم التي يذكر فيها الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له )1 .
سورة الدخان سريعة الإيقاع ، قصيرة الفواصل ، لها سمات السور المكية ، إذ تشتمل على صور عنيفة متقاربة ، ونذر متكررة ، تشبه المطارق التي تقع على أوتار القلب البشري . " ويكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة ذات محور واحد ، تشد إليه خيوطها جميعا ، سواء في ذلك القصة ، ومشهد القيامة ، ومصارع الغابرين ، والمشهد الكوني ، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة ، فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري ، واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة ، كما يبثها هذا القرآن في القلوب " 2 .
تبدأ السورة بهذه الآيات القصيرة المتلاحقة ، المتعلقة بالكتاب والإنذار والرسالة والهداية : { حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين } . ( الدخان : 1-5 ) .
ثم تعريف للناس بربهم ، رب السماوات والأرض وما بينهما ، وإثبات الوحدانية لله المحيي المميت ، رب الأولين والآخرين .
ثم يضرب السياق عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم : { بل هم في شك يلعبون } . ( الدخان : 9 ) .
ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم } . ( الدخان : 10 ، 11 ) .
ثم ذكر ما يكون من دعائهم لله أن يكشف عنهم العذاب ، وإعلانهم الاستعداد للإيمان في وقت لا يقبل منهم فيه إيمان .
وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد ، وهو الآن عنهم مكشوف ، فلينتهزوا الفرصة قبل أن يعودوا إلى ربهم فيكون ذلك العذاب المخيف : { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } . ( الدخان : 16 ) .
ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ، ومشهد البطشة الكبرى والانتقام ، ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه ، يوم جاءهم رسول كريم يدعوهم إلى الإيمان بالله ، فأبوا أن يستجيبوا لدعوته ، وهموا بالانتقام من موسى فأغرقهم الله ، وتركوا وراءهم الجنات والزروع ، والفاكهة والمقام الكريم ، يستمتع بها سواهم ، ويذوقون هم عذاب السعير .
وفي غمرة هذا المشهد الموحى يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة وإنكارهم للبعث وقولهم : { إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين * فاتوا بآبائنا إن كنتم صادقين } . ( الدخان : 35 ، 36 ) .
ليذكرهم بأنهم ليسوا أقوى من قوم تُبَّع الذين هلكوا لإجرامهم ، ويربط السياق بين البعث وحكمة الله في خلق السماوات والأرض ، فلم يخلقهما عبثا وإنما لحكمة سامية ، هي أن تكون الدنيا للعمل والابتلاء ، والآخرة للبعث والجزاء .
ثم يحدثهم عن يوم الفصل : { ميقاتهم أجمعين } . ( الدخان : 40 ) . وهنا يعرض مشهدا عنيفا لعذاب المكذبين ، إنهم يأكلون من شجرة مؤلمة ، طعامها مثل الزيت المغلي -وهو المهل- يغلى في البطون كغلي الحميم ، ويشد المجرم شدا في جفوة وإهانة ، ويصب فوق رأسه من الحميم الذي يكوي ويشوي .
ومع الشد والجذب ، والدفع والعتل والكي ، التأنيب والإهانة ، جزاء الشك والتكذيب بالبعث والجزاء : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } . ( الدخان : 49 ) .
وفي الجانب الآخر من ساحة القيامة نجد المتقين في مقام أمين ، يلبسون الحرير الرقيق وهو السندس ، والحرير السميك وهو الإستبرق ، ويجلسون متقابلين يسمرون ويتمتعون بالحور العين ، و بالخلود في دار النعيم : { فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم } . ( الدخان : 57 ) .
ثم يأتي الختام يذكرهم بنعمة الله في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي ، الذي يفهمون كلامه ويدركون معانيه ، ويخوفهم العاقبة والمصير ، في تعبير ملفوف ولكنه مخيف . { فارتقب إنهم مرتقبون } . ( الدخان : 59 ) .
{ حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ( 7 ) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( 8 ) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 ) }
حروف مفصلّة افتتح الله بها عددا من السور ، لتكون بمثابة الجرس الذي يقرع ، فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة .
ولأن الكفار كانوا يتواصون بعدم الاستماع للقرآن ، فلم قرع أسماعهم ما لم يألفوه أنصتوا ، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز ، ذلك أن الله تعالى طلب من المشركين أن يأتوا بمثل القرآن فعجزوا ، فطلب الإتيان بعشر سور منه فعجزوا ، فطلب الإتيان بسورة منه فعجزوا ، ولزمهم العجز الأبدي ، وتحداهم القرآن مفتتحا بعض السور بهذه الأحرف المقطعة ، مرشدا إلى أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدل ذلك على أنه من عند الله ، وهو وحي إلهي وليس من صنع بشر .
( مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم واستثنى بعض قوله تعالى ( إننا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ) وآيها كما قال الداني تسع وخمسون في الكوفي وسبع في البصري وست في عدد الباقين واختلافها على ما فيم جمعا لبيان أربع آيات ( حم وإن هؤلاء ليقولون ) كوفي ( شجرة الزقوم ) عراقي شامي والمدني الأول في ( البطون ) عراقي مكي والمدني الأخير ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عز وجلختم ما قبل بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الأنذار الشديد وذكر سبحانه هنا كقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم : ( يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) وهنا نظيره فيما حكى عن أخيه موسى عليهم الصلاة والسلام بقوله تعالى ( فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون ) وأيضا ذكر فيما تقدم ( لا أفصح عنهم وقل سلام ) وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام ( إني عذبت بربي وربكم أن ترجعون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون ) وهو قريب من قريب إلى غير ذلك وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان وورد بفضلها أخبار أخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك وأخرج المذكورون عنه أيضا يرفعه من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له وفي رواية للبيهقي وابن الضريس عنه مرفوعا من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال من قرأ سورة الدخان في ليلة غفر له ما تقدم من ذنبه وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أو يوم جمعة بني الله له بيتا في الجنة
{ حم والكتاب المبين } الكلام فيه كالذي سلف في السورة السابقة .