وبعدما يصل السياق بالقلب البشري إلى نهاية المطاف يكر راجعا به إلى الحياة ، يريه فيها آثار مشيئة الله . في كل مرحلة ، وفي كل حال :
وتحت هذا النص تكمن حقائق كثيرة . ومن خلاله تنبعث صور وظلال موحية مثيرة . .
أضحك وأبكى . . فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء . وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما ، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد ، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي . والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء .
وأضحك وأبكى . . فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء . وجعله - وفق أسرار معقدة فيه - يضحك لهذا ويبكي لهذا . وقد يضحك غدا مما أبكاه اليوم . ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس . في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة . والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على حال !
وأضحك وأبكى . . فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين . كل حسب المؤثرات الواقعة عليه . وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق . لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك . . وهو هو في ذاته . ولكنه بملابساته بعيد من بعيد !
وأضحك وأبكى . من الأمر الواحد صاحبه نفسه . يضحك اليوم من الأمر ثم تواجهه عاقبته غدا أو جرائره فإذا هو باك . يتمنى أن لم يكن وأن لم يكن ضحك وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة حيث لا ينفع البكاء !
هذه الصور والظلال والمشاعر والأحوال . . وغيرها كثير تنبثق من خلال النص القصير ، وتتراءى للحس والشعور . وتظل حشود منها تنبثق من خلاله كلما زاد رصيد النفس من التجارب ؛ وكلما تجددت عوامل الضحك والبكاء في النفوس - وهذا هو الإعجاز في صورة من صوره الكثيرة في هذا القرآن .
43- { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } .
أي : خلق سبب الضحك والبكاء ، وهما مختلفان ، فهو سبحانه أضحك بعض عباده بما يبعث على فرحهم وسرورهم ، وأبكى بعض عباده مما يبعث على حزنهم وبكائهم .
إنه سبحانه أضحك وأبكى من الأمر الواحد ، صاحبه نفسه يضحك اليوم من الأمر ، ثم تواجهه عاقبته غدا أو جرائره فإذا هو باك ، يتمنى أن لم يكن فعل ، وأن لم يكن ضحك ، وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة ، حيث لا ينفع البكاء ، وكم من فقير أعطاه الله الفرح والسرور والغبطة والحبور ، وكم من غني مُني بالخوف والحسرة ، والتردد والأحزان والبكاء ، فالسعادة والشقاء ، أو الضحك والبكاء ، وغيرها من المشاعر ، منح موزعة لا تخضع لمقاييس البشر ، فكم من عاقل رزقه قليل ، وكم من جاهل رزقه كثير ، كما يقول الشاعر :
قوله تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى } فهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء ، قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر . قال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ، لأن الفرح يجلب الضحك ، والحزن يجلب البكاء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أنبأنا قيس ، هو ابن الربيع الأسدي ، حدثنا سماك ابن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة : أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم وكان أصحابه يجلسون ويتناشدون الشعر ، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم . وقال معمر عن قتادة : سئل ابن عمر هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال : نعم ، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل .
قوله تعالى : " وأنه هو أضحك وأبكى " ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعال فلا فاعل إلا هو ، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا والله ما قال رسول الله قط إن الميت يعذب ببكاء أحد ، ولكنه قال : ( إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذابا وإن الله لهو أضحك وأبكى وما تزر وازرة وزر أخرى ) . وعنها قالت : مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون ، فقال : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) فنزل عليه جبريل فقال : يا محمد ! إن الله يقول لك : " وأنه هو أضحك وأبكى " . فرجع إليهم فقال : ( ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ايت هؤلاء فقل لهم : إن الله تعالى يقول : " هو أضحك وأبكى " أي قضى أسباب الضحك والبكاء . وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء . وقيل لعمر : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال : نعم ! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي . وقد تقدم هذا المعنى في ، " النمل{[14430]} " و " التوبة{[14431]} " . قال الحسن : أضحك الله أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقيل : أضحك من شاء في الدنيا بأن سره وأبكى من شاء بأن غمه . الضحاك : أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر . وقيل : أضحك الأشجار بالنوار ، وأبكى السحاب بالأمطار . وقال ذو النون : أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته ، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته . وقال سهل بن عبد الله : أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط . وقال محمد بن علي الترمذي : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا . وقال بسام بن عبدالله : أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم . وأنشد :
السنُّ تضحك والأحشاءُ تحترقُ *** وإنما ضِحْكُها زورٌ ومختلَقُ
يارُبَّ باكٍ بعينٍ لا دموعَ لهَا *** ورُبَّ ضاحكِ سِنٍّ ما به رَمَقُ
وقيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان . وقد قيل : إن القرد وحده يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك . وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة ؟ فقال : ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم .
ولما ذكر تعالى الأمور الاختيارية وقدمها لأنها محط للبلاء وسلب علمها عن أصحابها ، وحذر من عاقبتها بإحاطته بكل شيء ، وكان معنى ذلك أنه القادر لا غيره والعالم لا غيره ، عطف عليه قوله ذاكراً للأمور الاضطرارية التي هي في غاية التنافي إكمالاً للدليل على أنه يعلم ما في النفوس دون أصحابها وغيرهم وأنه إليه المنتهى إعادة وإبداء ، يوقف ما يشاء على ما يريد من الأسباب التي تفعل بإذنه من الضحك أو البكاء وغيرهما من الأمور المنافية التي لولا الإلف لها لقضى الإنسان أن المتلبس بأحدهما لا يتلبس بضده أصلاً ومن غيرها { وأنه } ولما كانت التأثيرات الإدراكية تحال على أسبابها ، أكد الكلام فيها فقال : { هو } أي لا غيره { أضحك وأبكى * } أي ولا يعلم أحد قبل وقت الضحك أو البكاء أنه يضحك أو يبكي ولا أنه يأتيه ما يعجبه أو يحزنه ، ولو قيل له حالة الضحك أنه بعد ساعة يبكي لأنكر ذلك ، وربما أدركه ما أبكاه وهو في الضحك وبالعكس .