في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون

تعرض هذه السورة جانباً مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ؛ ومن جدال واعتراضات . وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائماً في النفوس في كل زمان ومكان .

كانت الوثنية الجاهلية تقول : إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد ، نصيباً لله ، ونصيباً لآلهتهم المدعاة . ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) . . وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشىء من انحرافات العقيدة . فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب - وأنواع محرمة لحومها على الأكل : ( وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ) . .

وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى . فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعاً . وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ؛ لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع ؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها ، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة ، ويتبعون خرافات وأساطير : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن : خلقهن العزيز العليم ، الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا ، كذلك تخرجون ، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره ، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) . .

وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات الله ؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون لله البنات ! ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم ! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة .

وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم ؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : ( وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين . . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ، أشهدوا خلقهم ? ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ! ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون . أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون ? بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ! ) . .

ولما قيل لهم : إنكم تعبدون أصناماً وأشجاراً وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وقيل لهم : إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار . حرفوا الكلام الواضح البين ، واتخذوا منه مادة للجدل . وقالوا : فما بال عيسى وقد عبده قومه ? أهو في النار ? ! ثم قالوا : إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله . فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس !

وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل ؛ ويبرى ء عيسى - عليه السلام - مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه بريء : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون . وقالوا : أآلهتنا خير أم هو ? ما ضربوه لك إلا جدلاً . بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل . . . ) . .

وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم ، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة . وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون .

فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم ، وأنها ملة التوحيد الخالص ، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه ، وأن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قد جاءهم بها ، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون . بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين . ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون . . . ) . .

ولم يدركوا حكمة اختيار الله - سبحانه - لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال .

وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد ؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية ، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها : وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم : أهم يقسمون رحمة ربك ? نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون . ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤون ، وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ، والآخرة عند ربك للمتقين . .

ثم جاء بحلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون ، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة ، وهوانها على الله ، وهوان فرعون الذي اعتز بها ، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فقال : إني رسول رب العالمين . فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون . وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك ، إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون . ونادى فرعون في قومه قال : يا قوم أليس لي ملك مصر ، وهذه الأنهار تجري من تحتي ، أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ؛ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ! فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين ، فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) . .

حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية ، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة ، تدور السورة ، وتعالجها على النحو الذي تقدم . في أشواط ثلاثة تقدم أولها - قبل هذا - وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة . فلنأخذ في التفصيل :

( حم . والكتاب المبين . إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون . وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم . أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين ? وكم أرسلنا من نبي في الأولين . وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون . فأهلكنا أشد منهم بطشاً ، ومضى مثل الأولين . . )

تبدأ السورة بالحرفين : حا . ميم

ثم يعطف عليهما قوله : ( والكتاب المبين ) . . ويقسم الله - سبحانه - بحاميم كما يقسم بالكتاب المبين . وحا ميم من جنس الكتاب المبين ، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم . فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين . وهذان الحرفان - كبقية الأحرف في لسان البشر - آية من آيات الخالق ، الذي صنع البشر هذا الصنع ، وجعل لهم هذه الأصوات . فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الزخرف

أهداف سورة الزخرف

سورة ( الزخرف ) مكية ، نزلت بعد سورة ( الشورى ) ، وقد نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وقد سميت بسورة الزخرف لقوله تعالى فيها : { وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } . ( الزخرف : 35 ) .

أفكار السورة

تعرض هذه السورة جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ، ومن جدال واعتراضات ، وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ، وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلة الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كل زمان ومكان .

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة ( الزخرف ) هو : بيان إثبات القرآن في اللوح المحفوظ ، وإثبات الحجة والبرهان على وجود الصانع ، والرد على عباد الأصنام الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والمنة على الخليل إبراهيم بإبقاء كلمة التوحيد في عقبه ، وبيان قسمة الأرزاق ، والإخبار عن حسرة الكفار وندامتهم يوم القيامة ، ومناظرة فرعون وموسى ، ومجادلة عبد الله بن الزبعري للمؤمنين بحديث عيسى ، وادعاؤه أن الملائكة أحق بالعبادة من عيسى ، ثم بيان شرف الموحدين في القيامة ، وعجز الكفار في جهنم ، وإثبات ألوهية الحق سبحانه في السماء والأرض ، وأمر الرسول بالإعراض عن مكافأة الكفار1 ، في قوله تعالى : { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } . ( الزخرف : 89 ) .

فصول السورة :

إذا تأملنا سورة ( الزخرف ) وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :

1- شبهات الكافرين :

يشمل الفصل الأول الآيات من ( 1-25 ) . ويبدأ بالتنويه بشأن القرآن والوحي ، وبيان أن من سنة الله إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم ، ولكن البشرية قابلت الرسل بالاستهزاء والسخرية ، فأهلك الله المكذبين .

والعجيب أن كفار مكة كانوا يعترفون بوجود الله ، ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية ، من توحيد الله وإخلاص التوجه إليه ، فكانوا يجعلون له شركاء يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام .

وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ، ورد النفوس إلى الفطرة ، وإلى الحقائق الأولى ، فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا ، وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ، لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ، بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع ، ثم هم ينحرفون عن هذه الحقيقة ، ويتبعون خرافات وأساطير : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } . ( الزخرف : 9 ) .

وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات الله ، ومع أنهم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون لله البنات ، ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة الله ، ولو شاء ما عبدناهم ! ! وكانت مجرد أسطورة ناشئة عن انحراف العقيدة .

وفي هذه السورة يناقشهم بمنطقهم هم ، ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ( 16 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 ) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 ) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 ) } ( الزخرف : 15-19 ) .

ثم يكشف القرآن عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة ، وهو المحاكاة والتقليد ، وهي صورة زرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث يساق بدون تفكير .

ثم يبين القرآن أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة ، وحجتهم مكرورة بدون تدبر لما يلقى إليهم ولو كان أهدى وأجدى ، ومن ثم لا تكون عاقبتهم إلا التدمير والتنكيل ، انتقاما منهم وعقابا لهم : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ( 23 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 24 ) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 ) } . ( الزخرف : 23-25 ) .

2- مناقشة ومحاجة

تشتمل الآيات من ( 26-56 ) على القسم الثاني من السورة ، وهو استمرار لمناقشة قريش في دعواها ، فقد كانت قريش تقول إنها من ذرية إبراهيم -وهذا حق- وإنها على ملة إبراهيم -وهذا ادعاء باطل- فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ، ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد أن تعرض للقتل والتحريق ، وعلى التوحيد قامت شريعة إبراهيم ، ثم أوصى بها ذريته وعقبه ، فلم يكن للشرك فيها أي خيط رفيع .

وفي هذا القسم من السورة يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية ، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون ، ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم : { لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . ( الزخرف : 31 ) . ويناقش قولتهم هذه ، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة ، والقيم الزائفة التي تتراءى لهم ، وتصدهم عن الحق والهدى ، وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضية يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله ، بعد أن يطلعهم على علة هذا العمى ، وهو من وسوسة الشيطان .

ويلتفت في نهاية هذا الدرس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسليه ويواسيه عن إعراضهم وعماهم ، فما هو بهادي العمي أو مسمع الصم وسيلقون جزاءهم ، سواء شهد انتقام الله منهم ، أو أخره الله عنهم ، ويوجهه إلى الاستمساك بما أوحى إليه فإنه الحق الذي جاء به الرسل أجمعون ، فكلهم جاءوا بكلمة التوحيد .

ثم يعرض من قصة موسى عليه السلام حلقة تمثل هذا الواقع من العرب مع رسولهم ، وكأنما هي نسخة مكررة تحوي ذات الاعتراضات التي يعترضون بها ، وتحكي اعتزاز فرعون وملئه بذات القيم التي يعتز بها المشركون : المال ، الملك ، الجاه ، السلطان ، مظاهر البذخ ، وقد بين القرآن فيما سبق أنها لا تزن عند الله جناح بعوضة ، ولو شاء الله لأعطى هذه الأموال للكافر في الدنيا لهوانها على الله من جهة ، ولأن هذا الكافر لا حظَّ له في نعيم الآخرة من جهة أخرى ، ولكن الله لم يفعل ذلك حتى لا يفتن الناس ، وهو العليم بضعفهم ، ولولا خوف الفتنة لجعل للكافر بيوتا سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب ، بيوتا ذات أبواب كثيرة ، وقصورا فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزا لهوان هذه الفضة وهذا الذهب والزخرف والمتاع ، بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمان .

وهذا المتاع الزائل لا يتجاوز حدود الدنيا ، ولكن الله يدخر نعيم الآخرة للمتقين .

3- من أساطير المشركين

تشمل الآيات من ( 57-89 ) الدرس الأخير في سورة ( الزخرف ) ، وفيها يستطرد السياق إلى حكاية أساطير المشركين حول عبادة الملائكة ، ويحكى حادثا من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه ، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية ، لا بقصد الوصول إلى الحق ، ولكن مراء ومحالا .

فلما قيل : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة ، ثم عبدوها بذاتها ، وقيل لهم : إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار ، لما قيل لهم هذا ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم -وقد عبده المنحرفون من قومه- أهو في النار ؟ وكان هذا مجرد جدل ، ومجرد مراء .

ثم قالوا : إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر ، فنحن أهدى منهم إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله ، وكان هذا باطلا يقوم على باطل .

وبهذه المناسبة يذكر السياق طرفا من قصة عيسى ابن مريم ، يكشف حقيقته وحقيقة دعوته ، واختلاف قومه من قبله ومن بعده .

ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعا بمجيء الساعة بغتة ، وهنا يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة ، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين ، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين ، ثم بين إحاطة الله بجميع ما يصدر منهم ، وتسجيل ذلك عليهم : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } . ( الزخرف : 80 ) .

ثم تلطف القرآن في تنزيه الله عما يصفون ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر لهم أنه لو كان للرحمان ولد لكان النبي أول العابدين له ، ولكن الله منزه عن اتخاذ الولد ، فهو سبحانه له الملكية المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة .

ثم يواجههم القرآن بمنطق فطرتهم ، فهم يؤمنون بالله فكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم ، ويحيدون عن مقتضاه : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون } . ( الزخرف : 87 ) .

وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ، يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم : { وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } . ( الزخرف : 88 ) .

ويجيب عليه في رعاية ، فيدعوه إلى الصفح والإعراض ، فسيلقون جزاءهم المحتوم : { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } . ( الزخرف : 89 ) .

1

المفردات :

حم : حروف للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز .

التفسير :

1- { حم } .

حروف مقطعة تنطق : حا ميم ، وهي أدوات للتنبيه كالجرس الذي يقرع فينتبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ، أو هي حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، وإنما هو تنزيل من حكيم حميد ، وفي أول سورة البقرة تفصيل واف لمعاني الحروف المقطعة في فواتح السور .

   
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون ، نزلت بعد الشورى . وقد افتُتحت بحرفين من حروف الهجاء " حم " وبدأت بإثبات صدق القرآن الكريم ، وأن الله تعالى أنزله بهذه اللغة العربية الشريفة . وأنه ثابت في اللوح المحفوظ ، رفيع القدر ، محكَم النظم في أعلى طبقات البلاغة . .

والسورة كباقي السور المكية تعرض جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ، ومن جدل واعتراضات ، وكيف يعالج القرآن الكريم تلك النفوس ، ويقرر أثناء علاجها حقائقه وقيَمه بدلا من الخرافات والوثنيان والقيم الجاهلية الزائفة .

وقد سميت السورة الزخرف لما فيها من المثَل الرائع بتشبيه الحياة الدنيا ذات المتاع الزائل ، والبريق الخادع ، بالزخرف اللامع الذي ينخدع به كثير من الناس { ولولا أن يكون أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون ، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } .

وتعرِض السورة بعض دلائل قدرة الله تعالى ووحدانيته الواضحة في هذا الكون الفسيح وما فيه من عجائب وآثار ، وتبيّن بحجج دامغة أن الذين عبدوا غير الله إنما كانوا جاحدين ضالّين . لقد جعلوا له البنات ولهم البنين ! ! ثم جعلوا الملائكة إناثا ، { أشَهدوا خلقهم ؟ ستُكتب شهادتهم ويُسألون } . وإذا تغلبهم الحجة يقولون : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } وهكذا تمسكون بتقليد آبائهم .

ثم يثبّت الله رسوله الكريم ويحثّه أن يستمسك بالذي أوحيَ إليه لأنه صراط مستقيم ، فالقرآن والدين والعقيدة الصافية التي وردت فيه شرف كبير للنبي ولقومه { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون } .

ثم عرضت السورة إلى طرف من قصة إبراهيم ، ثم قصة موسى وعيسى باختصار . وفي عبرتها تذكّر الناس بقيام الساعة التي تأتي بغتة وهم لا يشعرون . وعند ذلك يكون كما قال تعالى : { الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } . كما وتعرض السورة إلى ما أعد للمؤمنين من نعيم وما يُغذَق عليهم مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وهم في الجنة خالدون . . وبالمقابل يأتي ما ينتظر المجرمين من العذاب المقيم .

ويخاطب الله تعالى رسوله الكريم بقوله : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } . وتختم السورة بعموم مُلك الله وبيان عظمته وجلاله ، وعجز من أشركوهم معه ، وبخطاب رقيق إلى سيد البشر عليه الصلاة والسلام { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يَعلمون } .

حم : تقرأ هكذا حاميم . افتتحت هذه السورة بهذين الحرفين من حروف الهجاء وقد تقدم ذِكر أمثالهما .

     
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

مكية بإجماع . وقال مقاتل : إلا قوله : " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " {[1]} [ الزخرف : 45 ] . وهي تسع وثمانون آية .

قوله تعالى : " حم ، والكتاب المبين " تقدم الكلام فيه{[13577]} . وقيل : " حم " قسم . " والكتاب المبين " قسم ثان ، ولله أن يقسم بما شاء . والجواب " إنا جعلناه " . وقال ابن الأنباري : من جعل جواب " والكتاب " " حم " - كما تقول نزل والله ، وجب والله - وقف على " الكتاب المبين " . ومن جعل جواب القسم " إنا جعلناه " لم يقف على " الكتاب المبين " . ومعنى : " جعلناه " أي سميناه ووصفناه ؛ ولذلك تعدى إلى مفعولين ، كقوله تعالى : " ما جعل الله من بحيرة " {[13578]} [ المائدة : 103 ] . وقال السدي : أي أنزلناه قرآنا . مجاهد : قلناه الزجاج وسفيان الثوري : بيناه . " عربيا " أي أنزلناه بلسان العرب ؛ لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه ، قاله سفيان الثوري وغيره . وقال مقاتل : لأن لسان أهل السماء عربي . وقيل : المراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة على الأنبياء ؛ لأن الكتاب اسم جنس فكأنه أقسم بجميع ما أنزل من الكتب أنه جعل القرآن عربيا .

والكناية في قوله : " جعلناه " ترجع إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة ؛ كقوله تعالى : " إنا أنزلناه في ليلة القدر " . [ القدر : 1 ] . " لعلكم تعقلون " أي تفهمون أحكامه ومعانيه . فعلى هذا القول يكون خاصا للعرب دون العجم . قاله ابن عيسى .

وقال ابن زيد : المعنى لعلكم تتفكرون ، فعلى هذا يكون خطابا عاما للعرب والعجم . ونعت الكتاب بالمبين لأن الله بين فيه أحكامه وفرائضه ، على ما تقدم في غير موضع .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[13577]:راجع ج 15 ص 289.
[13578]:آية 103 سورة المائدة.