سورة ( الزخرف ) مكية ، نزلت بعد سورة ( الشورى ) ، وقد نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وقد سميت بسورة الزخرف لقوله تعالى فيها : { وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين } . ( الزخرف : 35 ) .
تعرض هذه السورة جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ، ومن جدال واعتراضات ، وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ، وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلة الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كل زمان ومكان .
معظم مقصود سورة ( الزخرف ) هو : بيان إثبات القرآن في اللوح المحفوظ ، وإثبات الحجة والبرهان على وجود الصانع ، والرد على عباد الأصنام الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والمنة على الخليل إبراهيم بإبقاء كلمة التوحيد في عقبه ، وبيان قسمة الأرزاق ، والإخبار عن حسرة الكفار وندامتهم يوم القيامة ، ومناظرة فرعون وموسى ، ومجادلة عبد الله بن الزبعري للمؤمنين بحديث عيسى ، وادعاؤه أن الملائكة أحق بالعبادة من عيسى ، ثم بيان شرف الموحدين في القيامة ، وعجز الكفار في جهنم ، وإثبات ألوهية الحق سبحانه في السماء والأرض ، وأمر الرسول بالإعراض عن مكافأة الكفار1 ، في قوله تعالى : { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } . ( الزخرف : 89 ) .
إذا تأملنا سورة ( الزخرف ) وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :
يشمل الفصل الأول الآيات من ( 1-25 ) . ويبدأ بالتنويه بشأن القرآن والوحي ، وبيان أن من سنة الله إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم ، ولكن البشرية قابلت الرسل بالاستهزاء والسخرية ، فأهلك الله المكذبين .
والعجيب أن كفار مكة كانوا يعترفون بوجود الله ، ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية ، من توحيد الله وإخلاص التوجه إليه ، فكانوا يجعلون له شركاء يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام .
وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ، ورد النفوس إلى الفطرة ، وإلى الحقائق الأولى ، فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا ، وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ، لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ، بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع ، ثم هم ينحرفون عن هذه الحقيقة ، ويتبعون خرافات وأساطير : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } . ( الزخرف : 9 ) .
وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات الله ، ومع أنهم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون لله البنات ، ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة الله ، ولو شاء ما عبدناهم ! ! وكانت مجرد أسطورة ناشئة عن انحراف العقيدة .
وفي هذه السورة يناقشهم بمنطقهم هم ، ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ( 15 ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ( 16 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 ) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 ) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 ) } ( الزخرف : 15-19 ) .
ثم يكشف القرآن عن سندهم الوحيد في اعتقاد هذه الأسطورة ، وهو المحاكاة والتقليد ، وهي صورة زرية تشبه صورة القطيع يمضي حيث يساق بدون تفكير .
ثم يبين القرآن أن طبيعة المعرضين عن الهدى واحدة ، وحجتهم مكرورة بدون تدبر لما يلقى إليهم ولو كان أهدى وأجدى ، ومن ثم لا تكون عاقبتهم إلا التدمير والتنكيل ، انتقاما منهم وعقابا لهم : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ( 23 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 24 ) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 ) } . ( الزخرف : 23-25 ) .
تشتمل الآيات من ( 26-56 ) على القسم الثاني من السورة ، وهو استمرار لمناقشة قريش في دعواها ، فقد كانت قريش تقول إنها من ذرية إبراهيم -وهذا حق- وإنها على ملة إبراهيم -وهذا ادعاء باطل- فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ، ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد أن تعرض للقتل والتحريق ، وعلى التوحيد قامت شريعة إبراهيم ، ثم أوصى بها ذريته وعقبه ، فلم يكن للشرك فيها أي خيط رفيع .
وفي هذا القسم من السورة يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية ، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون ، ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم : { لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } . ( الزخرف : 31 ) . ويناقش قولتهم هذه ، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة ، والقيم الزائفة التي تتراءى لهم ، وتصدهم عن الحق والهدى ، وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضية يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله ، بعد أن يطلعهم على علة هذا العمى ، وهو من وسوسة الشيطان .
ويلتفت في نهاية هذا الدرس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسليه ويواسيه عن إعراضهم وعماهم ، فما هو بهادي العمي أو مسمع الصم وسيلقون جزاءهم ، سواء شهد انتقام الله منهم ، أو أخره الله عنهم ، ويوجهه إلى الاستمساك بما أوحى إليه فإنه الحق الذي جاء به الرسل أجمعون ، فكلهم جاءوا بكلمة التوحيد .
ثم يعرض من قصة موسى عليه السلام حلقة تمثل هذا الواقع من العرب مع رسولهم ، وكأنما هي نسخة مكررة تحوي ذات الاعتراضات التي يعترضون بها ، وتحكي اعتزاز فرعون وملئه بذات القيم التي يعتز بها المشركون : المال ، الملك ، الجاه ، السلطان ، مظاهر البذخ ، وقد بين القرآن فيما سبق أنها لا تزن عند الله جناح بعوضة ، ولو شاء الله لأعطى هذه الأموال للكافر في الدنيا لهوانها على الله من جهة ، ولأن هذا الكافر لا حظَّ له في نعيم الآخرة من جهة أخرى ، ولكن الله لم يفعل ذلك حتى لا يفتن الناس ، وهو العليم بضعفهم ، ولولا خوف الفتنة لجعل للكافر بيوتا سقفها من فضة ، وسلالمها من ذهب ، بيوتا ذات أبواب كثيرة ، وقصورا فيها سرر للاتكاء ، وفيها زخرف للزينة . . رمزا لهوان هذه الفضة وهذا الذهب والزخرف والمتاع ، بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمان .
وهذا المتاع الزائل لا يتجاوز حدود الدنيا ، ولكن الله يدخر نعيم الآخرة للمتقين .
تشمل الآيات من ( 57-89 ) الدرس الأخير في سورة ( الزخرف ) ، وفيها يستطرد السياق إلى حكاية أساطير المشركين حول عبادة الملائكة ، ويحكى حادثا من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه ، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية ، لا بقصد الوصول إلى الحق ، ولكن مراء ومحالا .
فلما قيل : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة ، ثم عبدوها بذاتها ، وقيل لهم : إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار ، لما قيل لهم هذا ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم -وقد عبده المنحرفون من قومه- أهو في النار ؟ وكان هذا مجرد جدل ، ومجرد مراء .
ثم قالوا : إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر ، فنحن أهدى منهم إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله ، وكان هذا باطلا يقوم على باطل .
وبهذه المناسبة يذكر السياق طرفا من قصة عيسى ابن مريم ، يكشف حقيقته وحقيقة دعوته ، واختلاف قومه من قبله ومن بعده .
ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعا بمجيء الساعة بغتة ، وهنا يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة ، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين ، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين ، ثم بين إحاطة الله بجميع ما يصدر منهم ، وتسجيل ذلك عليهم : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } . ( الزخرف : 80 ) .
ثم تلطف القرآن في تنزيه الله عما يصفون ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر لهم أنه لو كان للرحمان ولد لكان النبي أول العابدين له ، ولكن الله منزه عن اتخاذ الولد ، فهو سبحانه له الملكية المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة .
ثم يواجههم القرآن بمنطق فطرتهم ، فهم يؤمنون بالله فكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم ، ويحيدون عن مقتضاه : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون } . ( الزخرف : 87 ) .
وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ، يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم : { وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } . ( الزخرف : 88 ) .
ويجيب عليه في رعاية ، فيدعوه إلى الصفح والإعراض ، فسيلقون جزاءهم المحتوم : { فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } . ( الزخرف : 89 ) .
حم : حروف للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز .
حروف مقطعة تنطق : حا ميم ، وهي أدوات للتنبيه كالجرس الذي يقرع فينتبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ، أو هي حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، وإنما هو تنزيل من حكيم حميد ، وفي أول سورة البقرة تفصيل واف لمعاني الحروف المقطعة في فواتح السور .