ثم بين النفر معتقدهم الخاص بعد إيمانهم :
( وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ، ولن نعجزه هربا ) . .
فهم يعرفون قدرة الله عليهم في الأرض ، ويعرفون عجزهم عن الهرب من سلطانه - سبحانه - والإفلات من قبضته ، والفكاك من قدره . فلا هم يعجزون الله وهم في الأرض ، ولا هم يعجزونه بالهرب منها . وهو ضعف العبد أمام الرب ، وضعف المخلوق أمام الخالق . والشعور بسلطان الله القاهر الغالب .
وهؤلاء الجن هم الذين يعوذ بهم رجال من الإنس ! وهم الذين يستعين بهم الإنس في الحوائج ! وهم الذين جعل المشركون بين الله - سبحانه - وبينهم نسبا ! وهؤلاء هم يعترفون بعجزهم وقدرة الله . وضعفهم وقوة الله ، وانكسارهم وقهر الله ، فيصححون ، لا لقومهم فحسب بل للمشركين كذلك ، حقيقة القوة الواحدة الغالبة على هذا الكون ومن فيه .
نعجز الله : نفوته ونتفلّت منه .
12- وأنا ظننّا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا .
تيقنّا وتأكدنا أننا في قبضة الله وسلطانه أينما كنّا ، فأين المهرب من قضاء الله وقدره ، وبيده سبحانه الخلق والأمر ؟
قال القرطبي : أي علمنا بالاستدلال والتفكّر في آيات الله أنّا في قبضته وسلطانه ، لن نفوته بهرب ولا غيره . اه .
وقال غيره : لن نعجز الله في الأرض مع بسطها وسعتها وكثرة فجاجها ، وتشعب طرقها ، فلا نفوته إذا أراد بنا أمرا أينما كنّا فيها ، ولن نستطيع أن نفلت منه –عز وجل- هربا إلى السماء ، وإن هربنا فلن نخلص منه ، وذلك لشدة قدرته وعظيم سلطانه .
هذه هي الجن تعترف بعجزها وانكسارها أمام القوة الواحدة الغالبة على هذا الكون ومن فيه .
قوله تعالى : " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض " الظن هنا بمعنى العلم واليقين ، وهو خلاف الظن في قوله تعالى : " وأنا ظننا أن لن تقول " [ الجن : 5 ] ، " وأنهم ظنوا " [ الجن : 7 ] أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله ، أنا في قبضته وسلطانه ، لن نفوته بهرب ولا غيره . و " هربا " مصدر في موضع الحال أي هاربين .
ولما دلوا على قهرهم عما كانوا يقدرون عليه من أمر{[69098]} السماء بما ذكروا ، وعلى قهر مفسديهم بهذا القرآن عن كثير مما كانوا يفعلونه بأهل الأرض ، فقهروا بهذا القرآن {[69099]}العظيم الشأن{[69100]} في الحقيقة عن الخافقين فمنعنا منهم وحفظاً به ، ودلوا على أنهم موضع القهر بالتفرق ، كان ذلك موجباً للعلم بشمول قدرته تعالى حتى لا يدركه طالب ، ولا ينجو منه هارب ، لما أبدى لهم من شؤون عظمته وقهره في الحراسة وغيرها ، فذكر سبحانه ما أثر ذلك عندهم من الاعتراف والإذعان للواحد القهار ، فقال حاكياً عنهم ذلك ندباً إلى الاقتداء بهم في معرفة النفس بالعز والذل والضعف بالتفرق{[69101]} والانقسام ، ومعرفة الرب سبحانه بالقدرة الكاملة والسلطان والعظمة بالتفرد{[69102]} التام الذي لا يقبل المماثلة ولا القسمة : { وإنا } أكدوا لظن الإنس في قوتهم غير ما هو لها { ظننا } أطلقوا الظن على العلم إشارة إلى أن العاقل ينبغي له أن يجتنب ما يخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع الحيل فكيف{[69103]} إذا تيقن { أن } أي أن الشأن العظيم ، وزادوا في التأكيد لما تقدم فقالوا : { لن نعجز الله } أي أن{[69104]} نقاومه إن أراد بنا سوءاً لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له ، ودلوا على وجه الضعف{[69105]} بقولهم : { في الأرض } أي كائنين فيها مقيمين وهي جهة السفل الملزومة للقهر ، وذلك أقصى جهدنا فأين نحن من سعة ملكه الذي هو في قبضته { ولن نعجزه } أي بوجه من الوجوه { هرباً * } أي ذوي هرب أو من جهة الهرب ، أي هربنا من الأرض إلى غيرها فإن السماء منعت منا وليس لنا مضطرب إلا في قبضته ، فأين{[69106]} أم إلى أين المهرب ، وقد منعوا بذلك وجهي النجاة باللقاء والنصر{[69107]} والهرب عند القهر .