ثم يوجه الله رسوله في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره :
يوجهه إلى تكبير ربه : ( وربك فكبر ) . . ربك وحده . . فهو وحده الكبير ، الذي يستحق التكبير . وهو توجيه يقرر جانبا من التصور الإيماني لمعنى الألوهية ، ومعنى التوحيد .
إن كل أحد ، وكل شيء ، وكل قيمة ، وكل حقيقة . . صغير . . والله وحده هو الكبير . . وتتوارى الأجرام والأحجام ، والقوى والقيم ، والأحداث والأحوال ، والمعاني والأشكال ؛ وتنمحي في ظلال الجلال والكمال ، لله الواحد الكبير المتعال .
وهو توجيه للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليواجه نذارة البشرية ، ومتاعبها وأهوالها وأثقالها ، بهذا التصور ، وبهذا الشعور ، فيستصغر كل كيد ، وكل قوة ، وكل عقبة ، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة ، هو الكبير . . ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور وهذا الشعور .
الرابعة- " وربك فكبر " أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظم ، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد . وفي حديث أنهم قالوا : بم تفتتح الصلاة ؟ فنزلت : " وربك فكبر " أي وصفه بأنه أكبر . قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة ، فإنه مراد به التكبير{[15544]} والتقديس والتنزيه ، لخلع الأنداد والأصنام دونه ، ولا تتخذ وليا غيره ، ولا تعبد سواه ، ولا ترى لغيره فعلا إلا له ، ولا نعمة إلا منه . وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد : اعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قولوا الله أعلى وأجل ) وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذانا وصلاة وذكرا بقوله : " الله أكبر " وحمل عليه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في موارد ، منها قوله : ( تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه ، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك ، وإعلانا{[15545]} باسمه في النسك ، وإفرادا لما شرع منه لأمره بالسفك . قلت : قد تقدم في أول سورة " البقرة " {[15546]} أن هذا اللفظ " الله أكبر " هو المتعبد به في الصلاة ، المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم . وفي التفسير : أنه لما نزل قوله تعالى : " وربك فكبر " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( الله أكبر )فكبرت خديجة ، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى ، ذكره القشيري .
الخامسة- الفاء في قوله تعالى : " وربك فكبر " دخلت على معنى جواب الجزاء كما دخلت في ( فأنذر ) أي قم فأنذر وقم فكبر ربك ، قاله الزجاج . وقال ابن جني : هو كقولك زيدا فاضرب ، أي زيدا اضرب ، فالفاء زائدة .
ولما كان الإنذار يتضمن مواجهة الناس بما يكرهون ، وذلك عظيم على الإنسان ، وكان المفتر عن{[69687]} اتباع الداعي أحد أمرين : تركه مما يؤمر به ، وطلبه عليه الأجر ، كما أن الموجب لاتباعه عمله بما دعا إليه ، وبعده عن أخذ الأجر عليه ، أمره بتعظيم من أرسله سبحانه فإنه إذا عظم حق تعظيمه صغر كل شيء دونه ، فهان عليه الدعاء و-{[69688]}كان له معيناً على القبول فقال : { وربك } أي {[69689]}المربي لك{[69690]} خاصة { فكبر * } أي {[69691]}وقم{[69692]} فتسبب عن قيامك بغاية الجد{[69693]} والاجتهاد أن تصفه وحده بالكبرياء قولاً واعتقاداً على كل حال ، وذلك تنزيهه عن الشرك أول كل شيء ، وكذا عن كل ما لا يليق به من وصل وفصل ، ومن سؤال غيره ، والاشتغال بسواه .
و-{[69694]} قال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ملاءمتها{[69695]} لسورة المزمل واضحة ، واستفتاح السورتين من نمط واحد ، وما ابتدئت به كل واحدة منهما من جليل خطابه عليه الصلاة والسلام وعظيم تكريمه
{ {[69696]}يا أيها المزمل{[69697]} }[ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] والأمر فيهما بما يخصه
{ قم الّيل إلا قليلاً نصفه }[ المزمل : 2 - 3 ] الآي ، وفي الآخرى { قم فانذر وربك فكبر } [ المدثر : 2 - 3 ] أتبعت في الأولى بقوله :
{ فاصبر على ما يقولون }[ المزمل : 10 ] وفي الثانية بقوله { ولربك فاصبر } [ المدثر : 7 ] وكل ذلك قصد واحد ، واتبع أمره بالصبر في المزمل بتهديد الكفار ووعيدهم
{ وذرني والمكذبين }[ المزمل : 11 ] الآيات ، وكذلك في الأخرى
{ ذرني ومن خلقت وحيداً }[ المدثر : 11 ] الآيات ، فالسورتان واردتان في معرض واحد وقصد متحد - انتهى .