( وهو الغفور الودود ) . . والمغفرة تتصل بقوله من قبل : ( ثم لم يتوبوا ) . . فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود . وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب . ولو عظم الذنب وكبرت المعصية . . أما الود . . فيتصل بموقف المؤمنين ، الذين اختاروا ربهم على كل شيء . وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم . حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة ، يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها . . مرتبة الصداقة . . الصداقة بين الرب والعبد . . ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين . . فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة ? وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت ? ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو ? وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب ?
إن عبيدا من رقيق هذه الأرض . عبيد الواحد من البشر ، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه ، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه . . وهو عبد وهم عبيد . . فكيف بعباد الله . الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل ، الله( ذو العرش المجيد )العالي المهيمن الماجد الكريم ? ألا هانت الحياة . وهان الألم . وهان العذاب . وهان كل غال عزيز ، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد . .
الودود : المتودد إلى أوليائه بالكرامة .
وهو سبحانه غافر الذنب وقابل التوب ، هو خالق الخلق وهو أعلم بهم ، لذلك فتح باب التوبة للتائبين ، وغفر للمستغفرين ، ورحم المسترحمين ، ولم يغلق بابه في وجه قاصد ، ومهما عظم الذنب وكبرت الخطيئة ، إذا صحّ الندم ، وعظم الألم ، وصدقت نية العبد في التوبة ، فإن الله لا يردّ من قصد بابه .
قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . . . ( النساء : 116 ) .
وقال عز شأنه : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم* وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له . . . ( الزمر : 53 ، 54 ) .
لقد سبقت رحمة الله غضبه ، قال تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء . . . ( الأعراف : 156 ) .
وقال سبحانه وتعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . ( يوسف : 87 ) .
وفي السنة الصحيحة أن رجلا قتل مائة نفس ، ثم ندم ورغب في التوبة ، فتطهر وانتقل من أرض المعصية إلى أرض فيها عبّاد الله ، ليعبد الله معهم ، وفي الطريق أدركته منيته فمات ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأوحى الله إليهم : انظروا هذا الذي مات ، إن كان قريبا من أرض الطاعة فلتقبض روحه ملائكة الرحمة ، وإن كان قريبا من أرض المعصية فلتقبض روحه ملائكة العذاب ، فوجدوه قريبا من أرض الطاعة شبرا أو ذراعا ، فقبضته ملائكة الطاعة .
فلو أن الرجل طاف الأرض كلها دون ندم أو توبة أو رغبة صادقة في التوبة ما نفعه ذلك ، لكن لما صدقت النية والرغبة في التوبة والندم قبله الله ، ويسر له باب التوبة وحسن الخاتمة .
واسم الله الودود . يفتح أبوابا من هذه الرحمة والمودة والرضا والمحبة ، الودود . الذي يبشّ للطائعين ، ويهشّ للمتبتلين ، ويرحم عباده ، ويكرم أولياءه ، ويرضى عن المؤمنين .
قال ابن عباس : الودود . يودّ أولياءه كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة .
فيا للفضل الإهلي ، ويا للجلال والكمال والرضا والمودة من الله العلي القدير للعبد المخلوق الفاني ، إذا صحت نيته ، وصدقت عقيدته ، وعظمت رغبته فيما عند الله ، حيث يجد مودة الله .
قال تعالى : يحبهم ويحبونه . . . ( المائدة : 54 ) .
قوال سبحانه : رضي الله عنهم ورضوا عنه . . . ( البينة : 8 ) .
وقال عز شأنه : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودّا . ( مريم : 96 ) .
وفي سورة الكهف نجد عناية الله تمتد لأصحاب الكهف ، ونجد في قصة موسى والخضر جانبا من هذه المودة ، حين رأينا الخضر يخرق السفينة ، ويقتل الغلام ، ويبني الجدار تحقيقا لجانب من رحمة الله ومودته بالصالحين ، وامتداد المودة إلى ذرية الصالحين ، حيث يقول الخضر –كما حكى القرآن الكريم :
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك . . . ( الكهف : 82 ) .
الودود : الذي يحب أولياءه وعباده الصالحين ، ودَّهُ يودّه ودّا بكسر الواو وفتحها وضمّها ووِدادا ، وودَادة ، ومودّةً : أحبّه . الودود : كثير الحب ، وهو أيضا اسم من أسماء الله الحسنى .
ثم ذكر سبحانه أنه يغفر دائماً ، وأنه رحيمٌ لعباده ، كثيرُ المحبّة لمن أطاعه ، فبين في ذلك أوصافٍ من صفات الرحمةِ والجَلال فقال :
1- { وَهُوَ الغفور } وهو كثير المغفرة لمن يتوب ويرجع إليه ، فيا أيها الناس
لا تقنَطوا من رحمة الله ، فإن رحمته وسِعت كلَّ شيء .
2- { الودود } المحبّ لأوليائه المخلِصين ، اللطيف المحسِن إليهم . وأي صفة أعظمُ من هذه الصفة ؟
{ وَهُوَ الْغَفُورُ } الذي يغفر الذنوب جميعها لمن تاب ، ويعفو عن السيئات لمن استغفره وأناب .
{ الْوَدُودُ } الذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء فكما أنه لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال ، والمعاني والأفعال ، فمحبته في قلوب خواص خلقه ، التابعة لذلك ، لا يشبهها شيء من أنواع المحاب ، ولهذا كانت محبته أصل العبودية ، وهي المحبة التي تتقدم جميع المحاب وتغلبها ، وإن لم يكن غيرها تبعًا لها ، كانت عذابًا على أهلها ، وهو تعالى الودود ، الواد لأحبابه ، كما قال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } والمودة هي المحبة الصافية ، وفي هذا سر لطيف ، حيث قرن { الودود } بالغفور ، ليدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا ، غفر لهم ذنوبهم وأحبهم ، فلا يقال : بل تغفر ذنوبهم ، ولا يرجع إليهم الود ، كما قاله بعض الغالطين .
بل الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب ، من رجل له راحلة ، عليها طعامه وشرابه وما يصلحه ، فأضلها في أرض فلاة مهلكة ، فأيس منها ، فاضطجع في ظل شجرة ينتظر الموت ، فبينما هو على تلك الحال ، إذا راحلته على رأسه ، فأخذ بخطامها ، فالله أعظم فرحًا بتوبة العبد من هذا براحلته ، وهذا أعظم فرح يقدر .
فلله الحمد والثناء ، وصفو الوداد ، ما أعظم بره ، وأكثر خيره ، وأغزر إحسانه ، وأوسع امتنانه "
ولما ذكر سبحانه بطشه ، وكان القادر على العنف قد لا يقدر على اللطف ، وإن قدر فربما لم-{[72518]} يقدر على الإبلاغ{[72519]} في ذلك ، وكان لا يقدر على محو الذنوب أعيانها وآثارها عن كل أحد بحيث لا يحصل لصاحبها عقاب ولا عتاب من أحد أصلاً إلا من كان قادراً على كل شيء ، قال مبيناً لجميع ذلك دليلاً على أنه الفاعل المختار ، ومؤكداً لخروجه عن العوائد : { وهو } أي وحده { الغفور } أي المحاء{[72520]} لأعيان الذنوب وآثارها إذا أراد بحيث لا يحصل لمن محا ذنبه كدر من جهة ذلك الذنب أصلاً { الودود * } أي الذي يفعل بمن{[72521]} أراد فعل المحب الكثير{[72522]} المحبة فيجيبه{[72523]} إلى ما شاء ويلقي على صاحب الذنب الذي محاه عنه وداً أي محبة كبيرة واسعة ويجعل له في قلوب{[72524]} الخلق رحمة ، ومادة " ود " تدور على الاتساع كما بينته في سورة الروم ،