وتعقيباً على هذا البيان الحاسم الجازم ، يتحدث عن اليقين ، وعما في هذا القول وأمثاله في القرآن من تبصرة وهدى ورحمة لأهل اليقين :
( هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ) . .
ووصف القرآن بأنه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والإنارة . فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الأمور . وهو بذاته هدى . وهو بذاته رحمة . . ولكن هذا كله يتوقف على اليقين . يتوقف على الثقة التي لا يخامرها شك ؛ ولا يخالطها قلق ، ولا تتسرب إليها ريبة . وحين يستيقن القلب ويستوثق يعرف طريقه ، فلا يتلجلج ولا يتلعثم ولا يحيد . وعندئذ يبدو له الطريق واضحاً ، والأفق منيراً ، والغاية محددة ، والنهج مستقيماً . وعندئذ يصبح هذا القرآن له نوراً وهدى ورحمة بهذا اليقين .
بصائر للناس : معالم للدين بمنزلة البصائر في القلوب .
20- { هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون } .
هذه رسالة الإسلام ، وآيات القرآن ، علامة هداية ، ونور يضيء طريق الإيمان ، ويبصر القلوب بطاعة الرحمان ، فقد اختلف أهل الكتاب من بعد ما جاءهم العلم ، ثم أنزل الله عليك القرآن هداية ورحمة ، وتبصرة بمعالم الدين ، وأحكام الحلال والحرام ، وتشريعا لأحكام الله ، وتبصيرا للناس بدين الله ، وفي القرآن هداية ورحمة ، لاشتماله على ألوان الهداية ، من التشريع والقصص ، وصفات الله وكمالاته ، وبيان ألوان الهداية التي يتفضل الله بها على عباده ، برحمته وفضله ، وحنانه ومغفرته ، وتوفيقه وألطافه ، وسائر معونته لعباده الذين يوقنون بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا .
بصائر للناس : معالم للدين يتبصر بها الناس .
لقوم يوقنون : يطلبون علم اليقين .
وبعد هذا كله يبين الله فضل القرآن ، وما فيه من الهداية والرحمة للناس أجمعين فيقول : { هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
إن هذا القرآن وما فيه من أحكام وأخلاق وتهذيب دلائلُ للناس تبصّرهم في أمور دينهم ودنياهم ، وهدى يرشدُهم إلى مسالك الخير ، ورحمةٌ من الله لقوم يوقنون به ويؤمنون بالله ورسوله .
{ 20 } { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
أي : { هَذَا } القرآن الكريم والذكر الحكيم { بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } أي : يحصل به التبصرة في جميع الأمور للناس فيحصل به الانتفاع للمؤمنين ، والهدى والرحمة .
{ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدين وفروعه ويحصل به الخير والسرور والسعادة في الدنيا والآخرة وهي الرحمة . فتزكو به نفوسهم وتزداد به عقولهم ويزيد به إيمانهم ويقينهم ، وتقوم به الحجة على من أصر وعاند .
ولما أوصل سبحانه إلى هذا الحد من البيان ، الفائت لقوى الإنسان ، قال مترجماً عنه : { هذا } أي الوحي المنزل . ولما كان في عظم بيانه {[58110]}وإزالة{[58111]} اللبس عن كل ملبس دق أو جل بحيث لا يلحقه شيء من {[58112]}خفاء ، جعله{[58113]} نفس البصيرة ، مجموعة جمع كثرة بصيغة منتهى الجموع كما جعله روحاً فقال : { بصائر للناس } أي الذين هم في أدنى المراتب ، يبصرهم بما يضرهم وما ينفعهم ، فما ظنك بمن فوقهم من الذين آمنوا ثم الذين يؤمنون ومن فوقهم .
ولما بين ما هو لأهل السفول ، بين ما هو لأهل العلو فقال تعالى : { وهدى } أي قائد{[58114]} إلى كل خير ، مانع{[58115]} من كل زيغ { ورحمة } أي كرامة وفوز{[58116]} ونعمة { لقوم يوقنون * } أي ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له أبداً{[58117]} .
قوله : { هذا بصائر للناس } يعني هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد { بصائر للناس } دلائل وبينات ومعالم للناس تبصرهم بالحق ، وتسلك بهم سبيل السداد والرشاد { وهدى ورحمة } أي رشاد لهم يفضي بهم إلى النجاة والسعادة . وهو كذلك رحمة من الله بهم من العذاب . وذلك { لقوم يوقنون } المؤمنون الموقنون بصحة ما جاءهم من عند الله أولى الناس بالانتفاع بهذا الدين بسبب إيمانهم ويقينهم{[4185]} .