وبينما هم في هذا الكرب ، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب :
( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ) . .
وهو تهديد مزلزل . . والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : خلي بيني وبين من يكذب بهذا الحديث . وذرني لحربه فأنا به كفيل !
ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث ?
إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف ! هذه النملة المضعوفة . بل هذه الهباءة المنثورة . . بل هذا العدم الذي لا يعني شيئا أمام جبروت الجبار القهار العظيم !
فيا محمد . خل بيني وبين هذا المخلوق . واسترح أنت ومن معك من المؤمنين . فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين . الحرب معي . وهذا المخلوق عدوي ، وأنا سأتولى أمره فدعه لي ، وذرني معه ، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا !
أي هول مزلزل للمكذبين ! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين . . المستضعفين . . ?
ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف !
( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .
وإن شأن المكذبين ، وأهل الأرض أجمعين ، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير . . ولكنه - سبحانه - يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان . وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارون . وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير . وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة ، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب ، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب . .
وليس أكبر من التحذير ، وكشف الاستدراج والتدبير ، عدلا ولا رحمة . والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير . وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم ، فقد كشف القناع ووضحت الأمور !
إنه سبحانه يمهل ولا يهمل . ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته . وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته التي قدرها بمشيئته . ويقول لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان . فسأملي لهم ، واجعل هذه النعمة فخهم ! فيطمئن رسوله ، ويحذر أعداءه . . ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب !
وأملي لهم : أمهلهم وأطيل لهم المدة ، يقال : أملى الله له ، أي : أطال له الملاوة ، وهي المدة من الزمن .
كيدي متين : تدبيري قويّ ، لا يفلت منه أحد .
أي : أمهملهم ولا أباغتهم جهرا ، بتأخير العذاب عنهم ، وأمنحهم كثيرا من النعم ليزدادوا إثما ، وهم يحسبون أن ذلك لإرادة الخير بهم .
إن تدبيري وعذابي لقويّ شديد ، لا يدفع بشيء ، فلا يفوتني أحد ولا يعجزني .
إن المعركة بين الله وبين هؤلاء الظالمين المعتدين ، والرّسل والهداة سبب ظاهريّ ، أما المسبب الحقيقي فهو الله ، ولا يغلب الله غالب ، وهذا إنذار رهيب للإنسان المسكين الذي يمثّل نملة صغيرة أمام قدرة الله القادرة ، إن هذه القدرة كانت وراء الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه في مكة ، وكانت أيضا وراءهم في المدينة حين أصبحت لهم دولة وقوة ، فقال تعالى لهم : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . . . ( الأنفال : 17 ) .
ورد هذا المعنى في كتاب الله تعالى في نحو قوله سبحانه : أيحسبون أنّما نمدّهم به من مال وبنين* نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون . ( المؤمنون : 55 ، 56 ) .
وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . ( الأنعام : 44 ) .
أي : أؤخرهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان على كفرهم وتمرّدهم عليّ ، لتتكامل حججي عليهم ، وإن كيدي لأهل الكفر لقوي شديدxiv .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديدxv . ( هود : 102 ) .
قوله تعالى : " وأملي لهم " أي أمهلهم وأطيل لهم المدة . والملاوة{[15274]} : المدة من الدهر . وأملى الله له أي أطال له . والمَلَوان : الليل والنهار . وقيل : " وأملي لهم " أي لا أعاجلهم بالموت ، والمعنى واحد . وقد مضى في " الأعراف " بيان هذا{[15275]} . " إن كيدي متين " أي إن عذابي لقوي شديد فلا يفوتني أحد .
ولما كان الاستدراج يكون بأسباب كثيرة من بسط النعم وغيرها ، فأبرزه بالنون{[67719]} المشتركة بين الاستتباع والعظمة ، وكان تأخير الأجل لا يكون إلا لله وحده بغير واسطة شيء قال سبحانه : { وأملي } أي أوخر أنا وحدي في آجالهم و{[67720]}أوسع لهم{[67721]} في جميع تمتعهم{[67722]} ليزدادوا إثماً { لهم } لأنه لا يقدر على مد الأجل وترفيه العيش غيري .
ولما سلاه صلى الله عليه وسلم بهذا غاية التسلية ، علل أو استأنف في جواب من لعله يقول : لم يكون أحدهم على هذا الوجه ؟ مسمياً إنعامه كيداً : { إن كيدي } أي {[67723]}ستري لأسباب{[67724]} الهلاك عمن أريد{[67725]} إهلاكه وإبدائي {[67726]}ذلك له{[67727]} في ملابس الإحسان وخلع البر والامتنان { متين * } أي في غاية القوة حيث كان حاملاً للإنسان على إهلاك نفسه باختياره وسيعلم {[67728]}عند الأخذ أني{[67729]} لما{[67730]} أمهلته ما أهملته{[67731]} وأن إمهالي إنما كان استدراجاً .