( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وشاقوا الرسول - من بعد ما تبين لهم الهدى - لن يضروا الله شيئا ، وسيحبط أعمالهم ) . .
إنه قرار من الله مؤكد ، ووعد منه واقع : أن الذين كفروا ، ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس ؛ وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل ، وشاقوا الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في حياته بإعلان الحرب عليه ، والمخالفة عن طريقه ، والوقوف في غير صفه . أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته . وذلك ( من بعد ما تبين لهم الهدى ) . . وعرفوا أنه الحق ؛ ولكنهم اتبعوا الهوى ، وجمح بهم العناد وأعماهم الغرض ، وقادتهم المصلحة العاجلة . .
قرار من الله مؤكد ، ووعد من الله واقع أن هؤلاء ( لن يضروا الله شيئا ) . . وهم أضأل وأضعف من أن يذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى . فليس هذا هو المقصود إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته . ولن يحدثوا حدثا في نواميسه وسننه . مهما بلغ من قوتهم ، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت . فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها ؛ وليست ضرا حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه . والعاقبة مقررة : ( وسيحبط أعمالهم ) . . فتنتهي إلى الخيبة والدمار . كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام !
شاقوا الرسول : عادوه وخالفوه ، وأصله : صاروا في شق غير شقه .
32- { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } .
قيل : نزلت هذه الآية في يهود بني قريظة وبني النضير ، حيث تبين لهم في التوراة صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وشاهدوا المعجزات تظهر على يديه ، فأعرضوا عن الإسلام .
وقيل : نزلت في المنافقين ، وقيل : نزلت في كفار قريش ، والأولى أن يقال : إن الآية عامة في جميع هذه الأصناف وأمثالها .
إن الذين كفروا بالله ورسوله ، ومنعوا الناس من الإيمان ، وزينوا لهم الكفر ، وعادوا رسول الله ، وصاروا في شق وجانب غير جانبه من بعد أن شاهدوا صدقه ، وأدركوا أنه صادق أمين هؤلاء : { لن يضروا الله شيئا . . . } فهم أحقر وأذل من ذلك ، لأن الله غالب على أمره ، ولن يضروا دين الله وهو الإسلام ، ولا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، وسيبطل الله كيدهم ، ويمحق تدبيرهم ، ويحفظ رسوله وينصر دينه ، وقد تم ذلك في غزوة بدر ، وفي غزوة بني قريظة ، والأحزاب وغيرها ، ونصر الله الإسلام على الكافرين والمنافقين واليهود وسائر أعداء دين الإسلام .
وفي معنى هذه الآية يقول الله تعالى في سورة الصف : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 7 ) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( 9 ) } . ( الصف : 7-9 ) .
شاقّوا الرسول : عادوه وخالفوه .
بعد أن بيّن الله تعالى حال المنافقين ذكَر هنا حال أساتذتهم اليهود الذين كفروا بالله وصدّوا الناس عن الإسلام بخبثهم ومكرهم ، وعادَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم . وقد تبين لهم صدقُه وأنه رسولُ من عند الله ، وعندهم وصفُه في التوراة . . فهؤلاء لن يضروا الله شيئا ، وإنما يضرّون أنفسَهم ، وسيحبط الله مكايدَهم التي نصبوها للإسلام والمسلمين .
قوله تعالى : " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله " يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود . وقال ابن عباس : هم المطعمون يوم بدر . نظيرها : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " [ الأنفال : 36 ] الآية{[13961]} . " وشاقوا الرسول " أي عادوه وخالفوه . " من بعد ما تبين لهم الهدى " أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات . " لن يضروا الله شيئا " بكفرهم . " وسيحبط أعمالهم " أي ثواب ما عملوه .
ولما جرت{[59894]} العادة بأن الإنسان لا يعذب ولا{[59895]} يهدد إلا من ضره كما تقدم من الإخبار بنكالهم وقبيح أعمالهم مهيئاً{[59896]} للسؤال عن ذلك فاستأنف قوله مؤكداً لظنهم أنهم هم{[59897]} الغالبون لحزب الله : { إن الذين كفروا } أي غطوا من دلت عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لا سيما بعد إرسال الرسول المؤيد بواضح المعجزات صلى الله عليه وسلم { وصدوا } أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم { عن سبيل الله } أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم .
ولما كان أكثر السياق للمساترين بكفرهم{[59898]} ، أدغم في قوله : { وشاقوا الرسول } أي الكامل في الرسلية المعروفة غاية المعرفة .
ولما كان سبحانه قد عفا عن إهمال الدليل العقلي على الوحدانية قبل الإرسال ، قال مثبتاً الجار إعلاماً بأنه لا يغفر لمضيعه بعد الإرسال ولو في أدنى وقت : { من بعد ما تبين } أي غاية التبين بالمعجز{[59899]} { لهم الهدى } {[59900]}بحيث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج بما أظهره الرسول من الخوارق إلى مبين ، ومنه ما أخبرت به الكتب القديمة الإليهة .
ولما كان المناصب للرسول إنما ناصب من أرسله ، دل على ذلك بقوله معرياً له من الفاء دلالة على عدم التسبيب{[59901]} بمعنى أن عدم هذا الضر موجود عملوا أو لم يعملوا وجدوا أو لم يوجدوا{[59902]} { لن يضروا الله } أي ملك الملوك ، ولم يقل : الرسول { شيئاً } أي كثيراً ولا قليلاً من ضرر بما تجمعوا عليه من الكفر والصد .
ولما كان التقدير : إنما ضروا أنفسهم ناجزاً بأنهم أتعبوها مما لم {[59903]}يغن عنهم{[59904]} شيئاً . عطف عليه : { وسيحبط } أي يفسد{[59905]} فيبطل بوعد لا خلق فيه { أعمالهم * } من المحاسن لبنائها من المنافق على غير أساس ثابت ، فهو إنما يرائي بها ، ومن المجاهر على غير-{[59906]} أساس أصلاً ، فلا ينفعهم شيء منها ، ومن المكايد التي يريدون بها توهين الإسلام ونجعل تدميرهم بها في تدبيرهم وإن تناهوا في إحكامها ، فلا تثمر لهم إلا عكس مرادهم سواء{[59907]} .
قوله تعالى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم 32 ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم 33 إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم 34 فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } .
ذلك تنديد من الله بأعداء الإسلام والمسلمين من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب الذين يحادون الله ورسوله ويكيدون للإسلام والمسلمين كيدا . وهو قوله : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى } المراد بذلك الظالمون الخاسرون على اختلاف مللهم ومذاهبهم وأهوائهم ، وأساليبهم في الكيد والكفر ، فإنهم جميعا يصدون الناس عن دين الله ، إذ يمنعونهم من الإقبال على الإسلام أو فهمه وإدراكه والتعرف عليه كيلا يدخلوا فيه ، وكذلك فإنهم يشاقون الرسول بمعاداته ومخالفته والتصدي له بالكيد والمكر والعدوان { من بعد ما تبين لهم الهدى } لقد تبين لهؤلاء أن رسول الله صادق أمين وأنه لا يقول على الله إلا الحق ، ويعلمون كذلك أن الإسلام حق وأنه يتضمن كل معاني الخير والعدل والمساواة والرحمة ، فهم لا يصدهم عن قبول الإسلام والدخول فيه إلا حقدهم واضطغانهم على الإسلام والمسلمين وفرط كراهيتهم لهذا الدين المبارك الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأن طبائعهم كزة وبور قد ران عليها التبلد والكفر والجحود .
قوله : { لن يضروا الله شيئا } لا يعبأ الله بكفر من كفر ولا بجحد من جحد . وإنما ضرر الكفر والجحود والصد عن دين الله عائد على الكافرين أنفسهم ، فهم قد خسروا أنفسهم لما حجبوا عنه شمس الإسلام الساطع المنير فباءوا بالخسران في هذه الدنيا حيث الظلم والفساد والحيرة والفوضى . وفي الآخرة حيث النار .
قوله : { وسيحبط أعمالهم } لا قيمة لأعمال الكافرين والمنافقين الذين يصدون عن دين الله ويكرهون البشرية في الإسلام . إنه لا وزن ولا قيمة لأعمالهم وإن كانت في صورتها خيّرة نافعة ، فهي جميعها صائرة إلى البطلان ، كالهباء المتناثر ذارت في الفضاء .