( أفغير الله أبتغي حكماً ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، فلا تكونن من الممترين ) . .
إنه سؤال على لسان رسول الله [ ص ] للاستنكار . استنكار أن يبتغي حكما غير الله في شأن من الشؤون على الاطلاق . وتقرير لجهة الحاكمية في الأمر كله ، وإفرادها بهذا الحق الذي لا جدال فيه . ونفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه طالباً حكمه في أمر الحياة كله :
ثم . . تفصيل لهذا الإنكار ، وللملابسات التي تجعل تحكيم غير الله شيئاً مستنكراً غريباً . . إن الله لم يترك شيئاً غامضاً ؛ ولم يجعل العباد محتاجين إلى مصدر آخر ، يحكمونه في ما يعرض لهم من مشكلات الحياة :
( وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ) . .
لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته . ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلاً ، محتوياً على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة . كما أنه تضمن أحكاماً تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة . . وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة . . هذا ما يقرره الله - سبحانه - عن كتابه . فمن شاء أن يقول : إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل . . ولكن ليقل معه . . إنه - والعياذ بالله - كافر بهذا الدين ، مكذب بقول رب العالمين !
ثم إن هناك من حولهم ملابسة أخرى تجعل ابتغاء غير الله حكماً في شأن من الشؤون أمراً مستنكراً غريباً . . إن الذين اوتوا الكتاب من قبل يعلمون أن هذا الكتاب منزل من عند الله ، وهم اعرف بالكتاب لأنهم من أهل الكتاب :
( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) . .
ولقد كانت هذه ملابسة حاضرة في مكة وفي الجزيرة ، يخاطب الله بها المشركين . . سواء أقر أهل الكتاب بها وجهروا - كما وقع من بعضهم ممّن شرح الله صدره للإسلام - أو كتموها وجحدوها - كما وقع من بعضهم فالأمر في الحالين واحد ؛ وهو إخبار الله سبحانه - وخبره هو الصدق - أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق . . فالحق محتواه ؛ كما أن الحق متلبس بتنزيله من الله . .
وما يزال أهل الكتاب يعلمون أن هذا الكتاب منزل من الله بالحق . وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين إنما تنبثق من هذا الحق الذي يتلبس به ، ومن هذا الحق الذي يحتويه . وما يزالون - من أجل علمهم بهذا كله - يحاربون هذا الدين ، ويحاربون هذا الكتاب ، حرباً لا تهدأ . . وأشد هذه الحرب وأنكاها ، هو تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب ؛ إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر . وجعل غير الله حكماً ، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة ، ولا يصبح لدين الله وجود . وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده ؛ يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه ؛ ولا تشاركها شريعة أخرى ، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى ، تستمد منها أوضاع المجتمع ، وأصول التشريعات ، ويرجع إليها ويستشهد بفقراتها كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته ! وأهل الكتاب - من صليبيين وصهيونيين - من وراء هذا كله ؛ ومن وراء كل وضع وكل حكم يقام لمثل هذه الأهداف الخبيثة !
وحين يقرر السياق أن هذا الكتاب أنزله الله مفصلاً ؛ وأن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق ، يلتفت إلى رسول الله [ ص ] ومن وراءه من المؤمنين به ؛ يهون عليه وعليهم شأن التكذيب والجدل الذي يجدونه من المشركين ؛ وشأن الكتمان والجحود الذي يجدونه من بعض أهل الكتاب :
وما شك رسول الله [ ص ] ولا امترى . ولقد ورد أنه [ ص ] عندما أنزل الله عليه : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك . لقد جاءك الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين ) . . قال : " لا أشك ، ولا أسأل " .
ولكن هذا التوجيه وأمثاله ؛ وهذا التثبيت على الحق ونظائره ؛ تدل على ضخامة ما كان يلقاه [ ص ] والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود ؛ ورحمة الله - سبحانه - به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مّن رّبّكَ بِالْحَقّ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام ، القائلين لك كفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهك : إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدّا عن عبادتها ، أفَغَيْرَ اللّهِ أبْتَغي حَكَما أي قل : فليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه ، لأنه لا حكم أعدل منه ولا قائل أصدق منه . وهُوَ أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصّلاً يعني : القرآن مفصلاً ، يعني مبينا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم . وقد بينا معنى التفصيل فيما مضى قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : والّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنّهُ مُنَزّلٌ مِنْ رَبكَ بالحَقّ فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ .
يقول تعالى ذكره : إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله ، وأشركوا معه الأنداد ، وجحدوا ما أنزلته إليك ، وأنكروا أن يكون حقّا ، وكذّبوا به . فالذين آتيناهم الكتاب وهو التوراة والإنجيل من بني إسرائيل ، يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مِنْ رَبّكَ يعني : القرآن ، وما فيه بالحَقّ يقول : فصلاً بين أهل الحقّ والباطل ، يدلّ على صدق الصادق في علم الله ، وكذب الكاذب المفتري عليه .
فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ يقول : فلا تكوننّ يا محمد من الشاكين في حقية الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب وغير ذلك مما تضمنه لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحقّ .
وقد بينا فيما مضى ما وجه قوله : { فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ }بِمَا أغْنَى عن إعادته مع الرواية المروية فيه .
وقد : حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ يقول : لا تكوننّ في شكّ مما قصصنا عليك .
وقوله تعالى : { أفغير } نصب ب { أبتغي } ، و { حكماً } نصب على البيان والتمييز{[5067]} ، و { مفصلاً } معناه مزال الإشكال قد فصلت آياته ، وإن كان معناها يعم في أن الله لا يبتغى سواه حَكماً في كل شيء وفي كل قضية فإنَّا نحتاج في وصف الكلام واتساق المعاني أن ننظرفيما تقدم إلى قضية تكون سببا إلى قوله تعالى :{ أفغير الله أبتغي حكما } ؟ فهي— والله أعلم— حكمه عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات ، وحكمه بأن جعل الأنبياء أعداء من الجن والإنس ، و { حَكَماً } أبلغ من حاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر ، و { حَكَماً } نصب على البيان أو الحال ، وبهذه الآية خاصمت الخوارج علياً رضي الله عنه في تكفيره بالتحكيم ، ولا حجة لها لأن الله تعالى حكم في الصيد وبين الزوجين فتحكيم المؤمنين من حكمه تعالى .
وقوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } .
يتضمن الإشهاد بمؤمنيهم والطعن والتنبيه على مشركيهم وحسدتهم ، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «منزّل » بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، «والكتاب » أولاً هو القرآن ، وثانياً اسم جنس التوارة والإنجيل والزبور والصحف ، ووصفه أهل الكتاب بالعلم عموم بمعنى الخصوص وإنما يريد علماؤهم وأحبارهم ، وقوله { فلا تكونن من الممترين } تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين{[5068]} .