في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ} (24)

وينتقل السياق إلى لمسة أخرى في مقطع جديد . . فتلك هي نشأة هذا الإنسان . . فهلا نظر إلى طعامه وطعام أنعامه في هذه الرحلة ? وهي شيء واحد من أشياء يسرها له خالقه ?

( فلينظر الإنسان إلى طعامه . أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا . فأنبتنا فيها حبا ، وعنبا وقضبا . وزيتونا ونخلا . وحدائق غلبا . وفاكهة وأبا . متاعا لكم ولأنعامكم ) . .

هذه هي قصة طعامه . مفصلة مرحلة مرحلة . هذه هي فلينظر إليها ؛ فهل له من يد فيها ? هل له من تدبير لأمرها ? إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته ، هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته . .

( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) . . ألصق شيء به ، وأقرب شيء إليه ، وألزم شيء له . . لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر . لينظر إلى قصته العجيبة اليسيرة ، فإن يسرها ينسيه ما فيها من العجب . وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته . وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته :

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىَ طَعَامِهِ * أَنّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً } .

يقول تعالى ذكره : فلينظر هذا الإنسان الكافر المُنكر توحيد الله إلى طعامه كيف دبّره ؟ كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ وشرابه ، قال : إلى مأكله ومشربه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ : آية لهم .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : أنّا صَبَبَنْا المَاءَ صَبّا فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة بكسر الألف من «أنّا » ، على وجه الاستئناف ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة «أنّا » بفتح الألف ، بمعنى : فلينظر الإنسان إلى أنا ، فيجعل «أنّا » في موضع خفض ، على نية تكرير الخافض ، وقد يجوز أن يكون رفعا إذا فُتحت ، بنية طعامه أنّا صببنا الماء صبا .

والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان معروفتان : فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ} (24)

فلينظر الإنسان إلى طعامه إتباع للنعم الذاتية بالنعم الخارجية .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ} (24)

إما مفرع على قوله : { لما يقض ما أمره } [ عبس : 23 ] فيكون مما أمره الله به من النظر ، وإما على قوله : { ما أكفره } [ عبس : 17 ] فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر الإنسان . والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة ، إذ التقدير : إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه . وهذا نظير الفاء في قوله تعالى : { إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق } [ الطارق : 4 ، 5 ] ، أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر مِمَّ خُلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو .

وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإِنسان ما أهملَه وكان الانتقال من الاستدلال بما في خَلْق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية : { من أي شيء خلقه } [ عبس : 18 ] إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخاً للاستدلال ، وتفنناً فيه ، وتعريضاً بالمنة على الإِنسان في هذه الدلائل ، من نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام .

وتعدية فعل النظر هنا بحرف { إلى } تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره . والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض . وجُعل المنظور إليه ذاتَ الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به .

وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات ، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكلها ، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكوّن الحبوب والثمار التي بها طعامه ، وقد وُصف له تطور ذلك ليَتَأمل ما أودع إليه في ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يَره ، ولا يخلو أحد عن علممٍ إجمالي بذلك ، فيزيده هذا الوصف علماً تفصيلياً ، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض ، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد ، وقد يكون تمثيلاً في جميع تلك الأطوار بأن تُخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بَذرها في الأرض ويُرسل الله لها قُوى لا نعلمها تُشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات ، قال تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً } [ نوح : 17 ، 18 ] .

وفي « تفسير ابن كثير » عند قوله تعالى : { وإذا النفوس زوجت } [ التكوير : 7 ] عن ابن ( أبي ) حاتم بسنده إلى ابن عباس : « يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كلُّ خلق بَلِي إنساننٍ أو دابة ولو مرّ عليهم مارٌّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض ، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد » ا ه .

وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكُنْه وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي .

والإِنسان المذكور هنا هو الإِنسان المذكور في قوله : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله : { من أي شيء خلقه } [ عبس : 18 ] ، لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداءُ كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإِيضاح .

وأدمج في ذلك منة عليه بالإمداد بالغذاء الذي به إخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج ، وَبِسبب كد الأعمال البدنية والإِفرازات ، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب .

وإنما تعلق النظر بالطعام مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام ، إجراءً للكلام على الإِيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله : { إنا صببنا الماء صباً } إلى آخرها .

فالتقدير : فلينظر الإِنسان إلى خَلق طعامه وتهيئة الماء لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم .