اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ} (24)

قوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } .

قال ابن الخطيب{[59376]} : اعلم أنَّ عادة الله - تعالى - جارية في القرآن الكريم ، كلما ذكر دلائل الأنفس يذكر عقبها دلائل الآفاق ، فبدأ - هاهنا - بما يحتاج الإنسان إليه .

واعلم أنَّ النَّبْتَ إنَّما يحصل من القَطْرِ النازل من السماء الواقع في الأرض ، فالسماء كالذَّكر ، والأرض كالأنثى ، فبيَّن نزول السماء إلى الأرض بقوله : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء } .

وقال القرطبي{[59377]} : لمَّا ذكر تعالى ابتداء خلقِ الإنسان ، ذكر ما يسَّر من رزقه ، أي : فلينظر كيف خلق الله طعامه الذي هو قوام حياته ، وكيف هيأ له أسباب المعاشِ ليستعد بها للمعاد ، وهذا النظر نظر القلب بالفكر ، والتدبر .

قال الحسنُ ومجاهدٌ : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } أي : إلى مدخله ومخرجه{[59378]} .

روى الضحاكُ بنُ سفيان الكلابي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا ضحَّاكُ ، ما طَعامُكَ » ؟ قلت : يا رسول الله ، اللَحْمُ واللَّبنُ ، قال : «ثُمَّ يصيرُ إلى مَاذَا » ؟ قلت : إلى ما قد علمتهُ ، قال : «فإنَّ الله - تعالى - ضَرَبَ مَا يَخْرجُ مِنْ ابْنِ آدمَ مثلاً للدُّنْيَا »{[59379]} .

وقال أبو الوليد : سألت ابن عمر - رضي الله عنه - عن الرجل يدخل الخلاء ، فينظر ما يخرج منه ، قال : يأتيه الملك فيقول : انظر ما بخلت به إلى ما صار{[59380]} .

واعلم أنَّ الطعام الذي يتناوله الإنسان له حالتان :

إحداهما متقدمة ، وهي التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود .

والحالة الثانية متأخرة وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان ، حتى يحصل الانتفاع بذلك الطعام ، فلما كانت الحالة الأولى أظهر للحسِّ ، لا جرم اكتفى الله تعالى بذكرها .


[59376]:الفخر الرازي 31/56.
[59377]:الجامع لأحكام القرآن 19/143.
[59378]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/144)، ومثله عن ابن الزبير ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/521)، وعزاه إلى ابن المنذر.
[59379]:أخرجه أحمد (3/452)، والطبراني في "الكبير" (8/359)، من حديث الضحاك بن سفيان الكلابي. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/291)، وقال: رواه أحمد والطبراني ورجال الطبراني رجال الصحيح غير علي بن زيد بن جدعان وقد وثق.
[59380]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/144)، وروي بمعناه عن أبي قلابة ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/521)، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.