سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون
تعرض هذه السورة جانباً مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ؛ ومن جدال واعتراضات . وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائماً في النفوس في كل زمان ومكان .
كانت الوثنية الجاهلية تقول : إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد ، نصيباً لله ، ونصيباً لآلهتهم المدعاة . ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . فقالوا : هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) . . وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشىء من انحرافات العقيدة . فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب - وأنواع محرمة لحومها على الأكل : ( وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ) . .
وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى . فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعاً . وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ؛ لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع ؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها ، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة ، ويتبعون خرافات وأساطير : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن : خلقهن العزيز العليم ، الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون ، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا ، كذلك تخرجون ، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ، لتستووا على ظهوره ، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ، وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ) . .
وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إن الملائكة بنات الله ؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم ، فإنهم كانوا يختارون لله البنات ! ويعبدونهم من دونه ، ويقولون : إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم ! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة .
وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم ؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح ، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق : ( وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين . . أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ، أشهدوا خلقهم ? ستكتب شهادتهم ويسألون . وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ! ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون . أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون ? بل قالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ! ) . .
ولما قيل لهم : إنكم تعبدون أصناماً وأشجاراً وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وقيل لهم : إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار . حرفوا الكلام الواضح البين ، واتخذوا منه مادة للجدل . وقالوا : فما بال عيسى وقد عبده قومه ? أهو في النار ? ! ثم قالوا : إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله . فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس !
وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل ؛ ويبرى ء عيسى - عليه السلام - مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه بريء : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون . وقالوا : أآلهتنا خير أم هو ? ما ضربوه لك إلا جدلاً . بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل . . . ) . .
وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم ، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة . وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون .
فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم ، وأنها ملة التوحيد الخالص ، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه ، وأن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] قد جاءهم بها ، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون . بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين . ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر ، وإنا به كافرون . . . ) . .
ولم يدركوا حكمة اختيار الله - سبحانه - لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال .
وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد ؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية ، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها : وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم : أهم يقسمون رحمة ربك ? نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون . ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤون ، وزخرفاً . وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ، والآخرة عند ربك للمتقين . .
ثم جاء بحلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون ، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة ، وهوانها على الله ، وهوان فرعون الذي اعتز بها ، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه ، فقال : إني رسول رب العالمين . فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون . وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون . وقالوا : يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك ، إننا لمهتدون . فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون . ونادى فرعون في قومه قال : يا قوم أليس لي ملك مصر ، وهذه الأنهار تجري من تحتي ، أفلا تبصرون ? أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ؛ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ! فاستخف قومه فأطاعوه ، إنهم كانوا قوماً فاسقين ، فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) . .
حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية ، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة ، تدور السورة ، وتعالجها على النحو الذي تقدم . في أشواط ثلاثة تقدم أولها - قبل هذا - وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة . فلنأخذ في التفصيل :
( حم . والكتاب المبين . إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون . وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم . أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين ? وكم أرسلنا من نبي في الأولين . وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون . فأهلكنا أشد منهم بطشاً ، ومضى مثل الأولين . . )
تبدأ السورة بالحرفين : حا . ميم
ثم يعطف عليهما قوله : ( والكتاب المبين ) . . ويقسم الله - سبحانه - بحاميم كما يقسم بالكتاب المبين . وحا ميم من جنس الكتاب المبين ، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم . فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين . وهذان الحرفان - كبقية الأحرف في لسان البشر - آية من آيات الخالق ، الذي صنع البشر هذا الصنع ، وجعل لهم هذه الأصوات . فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن .
سورة الزخرف مكية وقيل إلا قوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا وآيها تسع وثمانون آية .
بسم الله الرحمن الرحيم { حم } { والكتاب المبين } { إنا جعلناه قرآنا عربيا } أقسم بالقرآن على أنه جعله قرآنا عربيا ، وهو من البدائع لتناسب القسم والمقسم عليه كقول أبي تمام :
ولعل إقسام الله بالأشياء استشهاد بما فيها من الدلالة على المقسم عليه ، وبالقرآن من حيث أنه معجز مبين لطرق الهدى وما يحتاج إليه في الديانة ، أو بين للعرب ما يدل على أنه تعالى صيره كذلك – { لعلكم تعقلون } لكي تفهموا معانيه .