في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَٱلصُّبۡحِ إِذَآ أَسۡفَرَ} (34)

ويعقب على هذه الوقفة التقريرية لهذه الحقيقة من حقائق الغيب ، ولمناهج التصور الهادية والمضللة . . يعقب على هذا بربط حقيقة الآخرة ، وحقيقة سقر ، وحقيقة جنود ربك ، بظواهر الوجود المشهودة في هذا العالم ، والتي يمر عليها البشر غافلين ، وهي تشي بتقدير الإرادة الخالقة وتدبيرها ، وتوحي بأن وراء هذا التقدير والتدبير قصدا وغاية ، وحسابا وجزاء :

كلا والقمر . والليل إذ أدبر . والصبح إذا أسفر . إنها لأحدى الكبر . نذيرا للبشر . .

ومشاهد القمر ، والليل حين يدبر ، والصبح حين يسفر . . مشاهد موحية بذاتها ، تقول للقلب البشري أشياء كثيرة ؛ وتهمس في أعماقه بأسرار كثيرة ؛ وتستجيش في أغواره مشاعر كثيرة . والقرآن يلمس بهذه الإشارة السريعة مكامن هذه المشاعر والأسرار في القلوب التي يخاطبها ، على خبرة بمداخلها ودروبها !

وقل أن يستيقظ قلب لمشهد القمر حين يطلع وحين يسري وحين يغيب . . ثم لا يعي عن القمر شيئا يهمس له به من أسرار هذا الوجود ! وإن وقفة في نور القمر أحيانا لتغسل القلب كما لو كان يستحم بالنور !

وقل أن يستيقظ قلب لمشهد الليل عند إدباره ، في تلك الهدأة التي تسبق الشروق ، وعندما يبدأ هذا الوجود كله يفتح عينيه ويفيق . . ثم لا ينطبع فيه أثر من هذا المشهد وتدب في أعماقه خطرات رفافة وشفافة .

وقل أن يستيقظ قلب لمشهد الصبح عند إسفاره وظهوره ، ثم لا تنبض فيه نابضة من إشراق وتفتح وانتقال شعوري من حال إلى حال ، يجعله أشد ما يكون صلاحية لاستقبال النور الذي يشرق في الضمائر مع النور الذي يشرق في النواظر .

والله الذي خلق القلب البشري يعلم أن هذه المشاهد بذاتها تصنع فيه الأعاجيب في بعض الأحايين ، وكأنها تخلقه من جديد .