{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } أي : جزاءهم على أعمالهم ، الجزاء الحق ، الذي بالعدل والقسط ، يجدون جزاءها موفرا ، لم يفقدوا منها شيئا ، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ويعلمون في ذلك الموقف العظيم ، أن الله هو الحق المبين ، فيعلمون انحصار الحق المبين في الله تعالى .
فأوصافه العظيمة حق ، وأفعاله هي الحق ، وعبادته هي الحق ، ولقاؤه حق ، ووعده ووعيده ، وحكمه الديني والجزائي حق ، ورسله حق ، فلا ثم حق ، إلا في الله وما من الله .
و «الدين » في هذه الآية الجزاء ومنه قول الشاعر : [ شهل بن شيبان الزماني ] [ الهزج ]
ولم يبق سوى العدوا . . . ن دناهم كما دانوا{[3]}
أي جازيناهم كما فعلوا مثل المثل كما تدين تدان{[4]} .
وقرأ جمهور الناس «الحقُّ » بالنصب على الصفة للدين ، وقرأ مجاهد «الحقُّ » بالرفع على الصفة لله عز وجل وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب «يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم » بتقديم الصفة على الموصوف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { يعلمون أن الله هو الحق المبين } يقوي قول من ذهب إلى أن الآية في المنافقين عبد الله بن أبي وغيره وذلك أَن كل مؤمن ففي الدنيا يعلم { أَن الله هو الحق المبين } وإلا فليس بمؤمن .
قوله : { يومئذٍ يوفيهم الله دينهم } استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالاً عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم . فدينهم جزاؤهم كما في قوله : { ملك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] .
و { الحقَّ } نعت للدين ، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة .
وقوله : { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } أي ينكشف للناس أن الله الحق . ووصف الله بأنه { الحق } وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق ، كقول الخنساء :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت *** فإنما هي إقبال وإدبار
وصفة الله بأنه { الحق } بمعنيين :
أولهما : بمعنى الثابت الحاق ، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم .
وعلى هذا المعنى في اسمه تعالى : { الحق } اقتصر الغزالي في « شرح الأسماء الحسنى » .
وثانيهما : معنى أنه ذو الحق ، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله : { دينهم الحق } . وبه فسر صاحب « الكشاف » فيحتمل أنه أراد تفسير معنى الحق هنا ، أي وصف الله بالمصدر وليس مراده تفسيرَ الاسم . ويحتمل إرادة الإخبار عن الله بأنه صاحب هذا الاسم وهذا الذي درج عليه ابن برّجان الإشبيلي{[285]} في كتابه « شرح الأسماء الحسنى » والقرطبي في « التفسير » .
و { الحق } من أسماء الله الحسنى . ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر ب { المبين } . والمبين : اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعدياً بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية ، ويستعمل بمعنى بان ، أي ظهر على اعتبار الهمزة زائدة ، فلك أن تجعله وصفاً ل { الحق } بمعنى العدل كما صرح به في « الكشاف » ، أي الحق الواضح . ولك أن تجعله وصفاً لله تعالى بمعنى أن الله مبيَّن وهاد . وإلى هذا نحا القرطبي وابن برَّجان ، فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم { المبين } .
فإن كان وصف الله ب { الحق } بالمعنى المصدري فالحصر المستفاد من ضمير الفصل ادعائي لعدم الاعداد ب { الحق } الذي يصدر من غيره من الحاكمين لأنه وإن يصادف المحز فهو مع ذلك معرض للزوال وللتقصير وللخطأ فكأنه ليس بحق أو ليس بمبين . وإن كان الخبر عن الله بأنه { الحق } بالمعنى الاسمي لله تعالى فالحصر حقيقي إذ ليس اسم الحق مسمى به غير ذات الله تعالى ، فالمعنى : أن الله هو صاحب هذا الاسم كقوله تعالى : { هل تعلم له سميّاً } [ مريم : 65 ] . وعلى هذين الوجهين يجري الكلام في وصَفه تعالى ب { المبين } .
ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين : أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين ؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم .
ويجوز أن يكون المراد ب { الذين يرمون المحصنات الغافلات } خصوص عبد الله بن أبي بن سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بله الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم لأنه زُين عند أنفسهم ، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم ؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة ويعلمون أن الله هو الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله فجاعلين الحق ثابتاً لأصنامهم ، فالقصر حيئنذ إضافي ، أي يعلمون أن الله وحده دون أصنامهم .
ويجوز أن يكون المراد ب { الذين يرمون المحصنات الغافلات } عبد الله بن أبي بن سلول وحده فعبر عنه بلفظ الجمع لقصد إخفاء اسمه تعريضاً به ، كما في قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.