وقوله : ( كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال ابن جرير : يقول : كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر ؛ من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله ، ( لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) يقول : لم يُؤد ما فُرض عليه من الفرائض لربه عز وجل .
ثم روى - هو وابن أبي حاتم - من طريق ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : ( كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال : لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه . وحكاه البغوي ، عن الحسن البصري ، بنحو من هذا . ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا . والذي يقع لي في معنى ذلك - والله أعلم - أن المعنى : ( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي : بعثه ، ( كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) [ أي ]{[29709]} لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى{[29710]} له أن سيُوجَدُ منهم ، ويخرج إلى الدنيا ، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا ، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم .
وقد روى ابنُ أبي حاتم ، عن وهب بن مُنَبّه قال : قال عُزَير ، عليه السلام : قال الملك الذي جاءني : فإن القبور هي بطنُ الأرض ، وإن الأرض هي أم الخلق ، فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبورُ التي مَدّ الله لها ، انقطعت الدنيا ومات من عليها ، ولفظت الأرض ما في جوفها ، وأخرجت القبورُ ما فيها ، وهذا شبيه بما قلنا من معنى الآية ، والله - سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأوِلين فيها بعضها جَافَّ المَنال ، وبعضها جاففٍ عن الاستعمال . ذلك أن المعروف في { كلاَّ } أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق ، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يُزجر عنه ولا أن يُبطل ، فتعين المصير إلى تأويل مورد { كَلاَّ } .
فأما الذين التزموا أن يكون حرف { كَلاَّ } للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها ، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإِنكار إلى ما يُومىء إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه .
فمنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما قبل { كَلاَّ } ممّا يومىء إليه قوله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره } [ عبس : 22 ] ، أي إذا شاء الله ، إذ يومىء إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلَّ بأنه لم ينشر أحداً منذ القدم إلى الآن . وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم .
وموقع { كَلاَّ } على هذا التأويل موقع الجواب بالإِبطال ، وموقع جملة : { لما يقض ما أمره } موقع العلة للإِبطال ، أي لو قَضَى ما أمره الله به لعِلم بطلان زعمه أنه لا ينشر .
وتأوله في « الكشاف » بأنه : « ردْع للإِنسان عما هو عليه » أي مِمَّا ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع ، يريد أنه زجر عن مضمون : { ما أكفره } [ عبس : 17 ] .
ومنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما بعد { كلاّ } مما يومىء إليه قوله تعالى : { لما يقض ما أمره } أي ليس الأمر كما يقول هذا الإِنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه ، ويُتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد ، وهو أقرب لأن ما بعد { كَلاَّ } لما كان نفياً ناسب أن يُجعل { كلاّ } تمهيداً للنفي .
وموقع { كلاّ } على هذا الوجه أنها جزء من استئناف .
وموقع جملة : { لما يقض ما أمره } استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة : { من أي شيء خلقه } إلى قوله : { أنشره } [ عبس : 18 22 ] ، أي إنما لم يَهتد الكافرُ إلى دلالة الخلق الأول على إمكاننِ الخلق الثاني ، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله .
وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في { كلاّ } وهم الكسائي القائل : تكون { كلاّ } بمعنى حقاً ، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل : تكون { كلا } بمعنى ( ألاّ ) الاستفتاحية .
والنضر بن شميل والفرّاء القائلان : تكون { كلاّ } حَرفَ جواب بمعنى نعم . فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر .
وعن الفراء { كلاّ } تكون صلة ( أي حرفاً زائداً للتأكيد ) كقولك : كلاَّ ورب الكعبة ا ه . وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية .
فالوجه في موقع { كلاّ } هنا أنه يجوز أن تكون زجراً عما يفهم من قوله : { ثم إذا شاء أنشره } [ عبس : 22 ] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيداً للإِبطال الذي في قوله : { كلا إنها تذكرة } [ عبس : 11 ] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غيرَ باطل فقوله : { إذا شاء } مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه ، أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما ننشرهم عندما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي .
وتكون جملة : { لما يقض ما أمره } تعليلاً للردع ، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن ، ويكون المراد بالأمر في قوله : { ما أمره } أمر التكوين ، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [ البقرة : 36 ] .
ويجوز أن يكون زجراً عما أفاده قوله : { لما يقض ما أمره } وقدمت { كلاّ } في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر .
وتقدم الكلام في { كلاّ } في سورة مريم وأحَلْتُ هنالك على ما هنا .
و { لَمَّا } حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل ( لَمْ ) ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] .
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مِما دعاه إليه .
والقضاء : فعل ما يجب على الإنسان كاملاً لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلاً تاماً ، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضاً عن الإيمان الذي أمره الله به ، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطواراً إلى الموت قال تعالى : { فلينظر الإنسان مما خلق } [ الطارق : 5 ] ، وما أمره من التدَبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه . ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر .
والضمير المستتر في { أمره } عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في ( خلقه ، وقدره ، ويسره ، وأماته ، وأقبره ، وأنشره ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
كلا، ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر، من أنه قد أدّى حقّ الله عليه، في نفسه وماله،" لمّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ": لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض ربّه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فمنهم من ذكر أن هذا الخطاب في كل أحد، لا ترى إنسانا قضى جميع ما عليه من الأمر على حد ما أمر حتى لا يغفل عنه، ولا يقصر فيه، بل منّ الله تعالى على كل أحد في كل طرفة عين نعمة، لا يتهيأ لأحد أن يقوم بكنه شكرها حتى لا يقع منه في ذلك جفاء ولا تقصير. ومنهم من يقول: هذا في الكفار خاصة، ولا يقضون ما أمروا به من التوحيد. فإذا كان على هذا فهو منصرف إلى ابتداء الأمر، وإن كان على الوجه الأول فهو منصرف إلى كنه الأمر، ويستقيم توجيهه إلى الكافر على ما ذكروا، لأن إيمان المؤمن، له حكم التجدد في كل وقت؛ إذ هو في كل وقت مأمور باجتناب الكفر، فهو يجتنبه، فذلك يكون. وإذا كان كذلك، ثبت أنه في كل وقت مؤمن بما أمر به، مجتنب عما نهي عنه، فهو بإيمانه راجع عن الزلات في كل حال، معتقد للوفاء بما أمر به، لذلك كان صرفه إلى الكافر أوجب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
رد لما عسى أن للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة ونفي مؤكد لطاعة الإنسان لربه وإثبات أنه ترك حق الله تعالى، ولم يقض ما أمره،...
واعلم أن قوله {كلا} ردع للإنسان عن تكبره وترفعه، أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد، وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر، وفي قوله: {لما يقض ما أمره} وجوه؛
(أحدها): قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضا عليه أبدا، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن تقصير البتة، وهذا التفسير عندي فيه نظر، لأن قوله: {لما يقض} الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق، وهو الإنسان في قوله: {قتل الإنسان ما أكفره} وليس المراد من الإنسان ههنا جميع الناس بل الإنسان الكافر فقوله: {لما يقض} كيف يمكن حمله على جميع الناس.
(وثانيها): أن يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يقض ما أمر به من التأمل في دلائل الله، والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الإنسان عامة، بأفراده جملة، وبأجياله كافة.. لما يقض ما أمره.. إلى آخر لحظة في حياته. وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما. كلا إنه لمقصر، لم يؤد واجبه. لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى.. ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر. ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء.. هو هكذا في مجموعه. فوق أن الكثرة تعرض وتتولى، وتستغني وتتكبر على الهدى!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفسير هذه الآية معضل، وكلمات المفسرين والمتأوِلين فيها بعضها جَاف المَنال، وبعضها جافٍ عن الاستعمال. ذلك أن المعروف في {كلاَّ} أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يُزجر عنه ولا أن يُبطل، فتعين المصير إلى تأويل مورد {كَلاَّ}. فأما الذين التزموا أن يكون حرف {كَلاَّ} للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإِنكار إلى ما يُومئ إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه. فمنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما قبل {كَلاَّ} ممّا يومئ إليه قوله تعالى: {ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 22]، أي إذا شاء الله، إذ يومئ إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلَّ بأنه لم ينشر أحداً منذ القدم إلى الآن. وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم. وموقع {كَلاَّ} على هذا التأويل موقع الجواب بالإِبطال، وموقع جملة: {لما يقض ما أمره} موقع العلة للإِبطال، أي لو قَضَى ما أمره الله به لعلم بطلان زعمه أنه لا ينشر...
. ومنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما بعد {كلاّ} مما يومئ إليه قوله تعالى: {لما يقض ما أمره} أي ليس الأمر كما يقول هذا الإِنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه...
أي إنما لم يَهتد الكافرُ إلى دلالة الخلق الأول على إمكانِ الخلق الثاني، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله...
فالوجه في موقع {كلاّ} هنا أنه يجوز أن تكون زجراً عما يفهم من قوله: {ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 22] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيداً للإِبطال الذي في قوله: {كلا إنها تذكرة} [عبس: 11] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غيرَ باطل فقوله: {إذا شاء} مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه، أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما ننشرهم عندما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي. وتكون جملة: {لما يقض ما أمره} تعليلاً للردع، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن، ويكون المراد بالأمر في قوله: {ما أمره} أمر التكوين، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [البقرة: 36]. ويجوز أن يكون زجراً عما أفاده قوله: {لما يقض ما أمره}...
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مِما دعاه إليه. والقضاء: فعل ما يجب على الإنسان كاملاً لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلاً تاماً، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضاً عن الإيمان الذي أمره الله به، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطواراً إلى الموت قال تعالى: {فلينظر الإنسان مما خلق} [الطارق: 5]، وما أمره من التدَبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه. ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر. والضمير المستتر في {أمره} عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في (خلقه، وقدره، ويسره، وأماته، وأقبره، وأنشره)...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتأتي الآية الأخيرة من الآيات المبحوثة لتبيّن لنا ما يؤول إليه الإنسان من ضياع في حال عدم اعتباره بكلّ ما أعطاه اللّه من المواهب، فبالرغم من حتمية تسلسل حياة الإنسان من نطفة حقيرة، مروراً بما يطويه من صفحات الزمن العابرة، حتى يموت ويقبر، لكنّه.. (كلاّ لمّا يقض ما أمره). جاءت «لمّا»، التي عادة ما يستعمل للنفي المصاحب لما ينتظر ويتوقع كإشارة إلى ما وضع تحت اختيار وعين الإنسان من نعم إلهية وهداية ربّانية وأسباب التذكير، لأجل أن يرجع الإنسان إلى ما فطر عليه ويؤدي ما عليه من مسؤولية وتكاليف، ولكنّه مع كلّ ذلك فلا زال غير مؤد لما عليه!...