تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا} (49)

ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه ، من أشق شيء على النفس ، لأمور كثيرة معروفة ، ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر ، وكان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ، واعتزل إبراهيم قومه ، قال الله في حقه : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا ْ } من إسحاق ويعقوب { جَعَلْنَا نَبِيًّا ْ } فحصل له هبة هؤلاء الصالحين{[507]} المرسلين إلى الناس ، الذين خصهم الله بوحيه ، واختارهم لرسالته ، واصطفاهم من العالمين .


[507]:- في ب: فحصل له ولهؤلاء الصالحين.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا} (49)

يقول : فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله ، أبدله الله من هو خير منهم ، ووهب له إسحاق ويعقوب ، يعني ابنه وابن إسحاق ، كما قال في الآية الأخرى : { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] ، وقال : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] .

ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب ، وهو نص القرآن في سورة البقرة : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] . ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب ، أي : جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء ، أقر الله بهم عينه في حياته ؛ ولهذا قال : { وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } ، فلو لم يكن يعقوب قد نُبئ في حياة إبراهيم ، لما اقتصر عليه ، ولذكر ولده يوسف ، فإنه نبي أيضًا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ، حين سئل عن خير الناس ، فقال : " يوسف نبي الله ، ابن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق نبي الله ، ابن إبراهيم خليل الله " {[18870]} وفي اللفظ الآخر : " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " {[18871]}


[18870]:صحيح البخاري برقم (3374) وصحيح مسلم برقم (2378).
[18871]:صحيح البخاري برقم (4688).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَمَّا ٱعۡتَزَلَهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا نَبِيّٗا} (49)

طُوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازاً في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمراً إلاّ نفذ عزمه ، واكتفاءً بذكر ما ترتّب عليه من جعل عزمه حدثاً واقعاً قد حصل جزاؤه عليه من ربّه ، فإنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه الله ذرية يأنس بهم إذْ وهبه إسحاق ابنه ، ويعقوب ابن ابنه ، وجعلهما نبيئين . وحسبك بهذه مكرمة له عند ربّه .

وليس مجازاة الله إبراهيم مقصورة على أن وهبه إسحاق ويعقوب ، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار ، فإنه قد وهبه إسماعيل أيضاً ، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة إسحاق ، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومَه .

وإنما اقتُصر على ذكر إسحاق ويعقوب دون ذكر إسماعيل فلم يقل : وهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، لأن إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه سارة قريبته ، فهي قد اعتزلت قومها أيضاً إرضاء لربها ولزوجها ، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه ، وهي أن وهب لهما إسحاق وبعده يعقوب ؛ ولأن هذه الموهبة لما كانت كِفاء لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهِبةَ من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب . أما إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيداً عن إبراهيم في مكة ليكون جارَ بيت الله . وإنه لجوار أعظم من جوار إسحاق ويعقوب أباهما .

وقد خصّ إسماعيل بالذكر استقلالاً عقب ذلك ، ومِثلُه قوله تعالى : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } [ ص : 45 ] ثم قال : { واذكر إسماعيل } في سورة ص ( 48 ) ، وقد قال في آية الصافات ( 99 101 ) { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم } إلى أن قال : وبشرناه بإسحاق نبيا م الصالحين فذكر هنالك إسماعيل عقب قوله : إني ذاهب إلى ربي سيهدين إذ هو المراد بالغلام الحليم .

والمراد بالهبة هنا : تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد إسحاق ويعقوب كان بعد خروج إبراهيم بمدة بعد أن سَكَن أرض كنعان وبعد أن اجتاز بمصر ورجع منها . وكذلك ازدياد إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز بمصر كما ورد في الحديث وفي التوراة ، أو أُريد حكاية هبة إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القرآن تنبيهاً بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه .

والنكتة في ذكر يعقوب أن إبراهيم رآه حفيداً وسُرّ به ، فقد ولد يعقوب قبل موت إبراهيم بخمس عشرة سنة ، وأن من يعقوب نشأت أمّة عظيمة .

وحرف ( لما ) حرف وجودٍ لوجودٍ ، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطه فتقتضي جملتين ، والأكثر أن يكون وجود جوابها عند وجود شرطها ، وقد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية ، أي التعليل دون توقيت ، وذلك كما هنا .