{ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } فألقاها { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تسعى سعيا شديدا ، ولها سورة مُهِيلة { كَأَنَّهَا جَانٌّ } ذَكَرُ الحيات العظيم ، { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : يرجع ، لاستيلاء الروع على قلبه ، فقال اللّه له : { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } وهذا أبلغ ما يكون في التأمين ، وعدم الخوف .
فإن قوله : { أَقْبِلْ } يقتضي الأمر بإقباله ، ويجب عليه الامتثال ، ولكن قد يكون إقباله ، وهو لم يزل في الأمر المخوف ، فقال : { وَلَا تَخَفْ } أمر له بشيئين ، إقباله ، وأن لا يكون في قلبه خوف ، ولكن يبقى احتمال ، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف ، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه ، فقال : { إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ } فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه ، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب ، بل مطمئنا ، واثقا بخبر ربه ، قد ازداد إيمانه ، وتم يقينه ، فهذه آية ، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى فرعون ، ليكون على يقين تام ، فيكون{[601]} أجرأ له ، وأقوى وأصلب .
وقوله : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } أي : التي في يدك . كما قرره على ذلك في قوله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [ طه : 17 ، 18 ] . والمعنى : أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } فعرف وتحقق أن الذي يخاطبه ويكلمه هو الذي يقول للشيء : كن ، فيكون . كما تقدم بيان ذلك في سورة " طه " .
وقال هاهنا : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } أي : تضطرب { كَأَنَّهَا جَانٌّ } أي : في حركتها السريعة مع عظم خَلْق قوائمها{[22309]} واتساع فمها ، واصطكاك أنيابها وأضراسها ، بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها ، فتنحدر في فيها تتقعقع ، كأنها حادرة في واد . فعند ذلك { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي : ولم يكن يلتفت ؛ لأن طبع البشرية ينفر من ذلك . فلما قال الله له : { يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ } ، رجع فوقف في مقامه الأول .
ثم أمره الله تعالى ، بإلقاء العصا ، فألقاها فانقلبت حية عظيمة ولها اضطراب «الجانّ » وهو صغير الحيات فجمعت هول الثعبان ونشاط الجانّ ، هذا قول بعضهم ، وقالت فرقة : بل «الجانّ » يعم الكبير والصغير وإنما شبه ب «الجان » جملة العصا لاضطرابها فقط ، وولى موسى عليه السلام فزعاً منها ، { ولم يعقب } ، معناه لم يرجع على عقبه ، من توليه فقال الله تعالى { يا موسى أقبل } فأقبل وقد آمن بتأمين الله إياه .
و{ أن ألق } هنا و { ألق } هناك [ النمل : 10 ] ، و { اسلك } هنا { وأدخل هناك } [ النمل : 12 ] . وتلك المخالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها ، وإلا زيادة { من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة } وهذا واد في سفح الطور . وشاطئه : جانبه وضفته .
ووصف الشاطىء بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار يريدون هذا المعنى قال امرؤ القيس :
على قطن بالشيم أيمن صوبه *** وأيسره على الستار فيذبل
وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين ، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل ، أي جهة مغرب الشمس من الطور . ألا ترى أنهم سموا اليمن يمناً لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة وسموا الشام شاماً لأنه على شآم المستقبل لبابها ، أي على شماله ، فاعتبروا استقبال الكعبة ، وهذا هو الملائم لقوله الآتي { وما كنت بجانب الغربي } [ القصص : 44 ] .
وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } [ طه : 80 ] فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك .
وإن حمل على أنه تفضيل من اليُمن وهو البركة فهو كوصفه ب { المقدس } في سورة [ النازعات : 16 ] { إذ ناداه ربه بالوادِي المقدس طُوى } .
و { البقعة } بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها . و { المباركة } لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى .
وقوله { من الشجرة } يجوز أن يتعلق بفعل { نُودِي } فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون { من } للابتداء ، أي سمع كلاماً خارجاً من الشجرة . ويجوز أن يكون ظرفاً مستقراً نعتاً ثانياً للواد أو حالاً فتكون { من } اتصالية ، أي متصلاً بالشجرة ، أي عندها ، أي البقعة التي تتصل بالشجرة .
والعريف في { الشجرة } تعريف الجنس وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة وليس التعريف للعهد إذ لم يتقدم ذكر الشجرة ، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العُلَّيق ( وهو من شجر العضاه ) وقيل : هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضاً . وزيادة { أقبل } وهي تصريح بمضمون قوله { لا تخف } في سورة [ النمل : 10 ] لأنه لما أدبر خوفاً من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله فكان الكلام هنالك إيجازاً وكان هنا مساواة تفنناً في حكاية القصتين ، وكذلك زيادة { إنك من الآمنين } هنا ولم يحك في سورة النمل وهو تأكيد لمفاد { ولا تخف } . وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد ب ( إن ) وجعله من جملة الآمنين فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال : إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى { أن أكون من الجاهلين } في سورة [ البقرة : 67 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأن ألق عصاك} من يدك {فلما رءاها تهتز} تتحرك {كأنها جان} يقول: كأنها حية. قال الهذيل، عن غير مقاتل: {كأنها جان} يعني: شيطان {ولى مدبرا} من الرهب من الحية، يعني: من الخوف {ولم يعقب} يعني ولم يرجع، قال سبحانه: {يا موسى أقبل ولا تخف} من الحية {إنك من الآمنين} من الحية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: نُودي موسى: أن يا موسى "إنّي أنا اللّهُ ربّ العَالَمِين. وأنْ ألْقِ عَصَاكَ "فألقاها موسى، فصارت حية تسعى "فَلَمّا رآها" موسى "تَهْتَزّ" يقول: تتحرّك وتضطرب "كأنّها جانّ" والجانّ: واحد الجِنّان، وهي نوع معروف من أنواع الحيات، وهي منها عظام. ومعنى الكلام: كأنها جانّ من الحيات "وَلّى مُدْبِرا" يقول: ولى موسى هاربا منها..."ولَمْ يُعَقّبْ" يقول: ولم يرجع على عقبه... عن قَتادة "ولَمْ يُعَقّبْ" يقول: ولم يعقب، أي لم يلتفت من الفرق... عن السديّ "ولَم يُعَقّبْ" يقول: لم ينتظر.
وقوله: "يا مُوسَى أقْبِلْ وَلا تَخَفْ" يقول تعالى ذكره: فنودي موسى: يا موسى أقبل إليّ ولا تخف من الذي تهرب منه.
"إنّكَ مِنَ الآمنِينَ" من أن يضرّك، إنما هو عصاك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين} قوله: {ولا تخف} يحتمل وجوها: أحدهما: على رفع الخوف من قلبه إذ قال {إنك من الآمنين}. والثاني: على البشارة أنه لا يؤذيه؛ كأنه يقول: لا تخف وكن من الآمنين، فإنه لا يؤذيك. والثالث: على النهي، أي لا تخف، فإني أحفظك، وأدفع أذاه عنك...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ...} الآية وإنما أمره بإلقاء عصاه في هذا الحال ليكون برهاناً عنده بأن الكلام الذي سمعه كلام الله ثم ليكون برهاناً له إلى من يرسل إليه من فرعون وملئه. فإن قيل: فإذا كانت برهاناً إليه وبرهاناً له فلم ولَّى منها هارباً؟ قيل لأمرين: أحدهما: رأى ما خالف العادة فخاف. الثاني: أنه يجوز أن يظن الأمر بإلقائها لأجل أذاها فولَّى هارباً حتى نودي فعلم. {ولَمْ يُعَقِّبْ} فيه وجهان: أحدهما: ولم يثبت، اشتقاقاً من العقب الذي يثبت القدم.
الثاني: ولم يتأخر لسرعة مبادرته. ويحتمل ثالثاً: أي لم يلتفت إلى عقبه لشدة خوفه وسرعة هربه.
{يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مَنَ الآمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: الآمنين من الخوف. الثاني: من المرسلين لقوله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ}. قال ابن بحر: فصار على هذا التأويل رسولاً بهذا القول. وعلى التأويل الأول يصير رسولاً بقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَاناَنِ مِنَ رَبِّكَ إلَى فِرْعَونَ وَمَلائهِ} والبرهانان اليد والعصا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمره الله تعالى، بإلقاء العصا، فألقاها فانقلبت حية عظيمة ولها اضطراب «الجانّ» وهو صغير الحيات فجمعت هول الثعبان ونشاط الجانّ، هذا قول بعضهم، وقالت فرقة: بل «الجانّ» يعم الكبير والصغير وإنما شبه ب «الجان» جملة العصا لاضطرابها فقط.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأن ألق عصاك} أي لأريك فيها آية.
ولما كان التقدير: فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة، وهي مع عظمها في غاية الخفة، بنى عليه قوله: {فلما رآها} أي العصا {تهتز كأنها} أي في سرعتها وخفتها {جان} أي حية صغيرة {ولّى مدبراً} خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها، وهو معنى قوله: {ولم يعقب} أي موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك كناية عن شدة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له: {يا موسى أقبل} أي التفت وتقدم إليها {ولا تخف} ثم أكد له الأمر لما الآدمي مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله: {إنك من الآمنين} أي العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَقْبِلْ} يقتضي الأمر بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر المخوف، فقال: {وَلَا تَخَفْ} أمر له بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف، ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه، فقال: {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنا، واثقا بخبر ربه، قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه اللّه إياها قبل ذهابه إلى فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون أجرأ له، وأقوى وأصلب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعا على هذه النفس، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعا. إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها؛ وإن هذا الانفعال الدائم لمقصود في تلك النفس، مقدر في هذه الحياة، لأنه الصفحة المقابلة لتبلد بني إسرائيل، ومرودهم على الاستكانة ذلك الأمد الطويل. وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق.