أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم ، آمنين من المؤمنين ، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم ، ولا ميثاق .
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر ، أو مقدر بأربعة أشهر فأقل ، أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر ، فإن الله يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة ، ولم يبدأ بنقض العهد .
ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم ، أنهم وإن كانوا آمنين ، فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه ، وأنه من استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه ، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام ، إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له .
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .
فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها : أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم ، ويعدّلون أوضاعهم . . آمنين . . لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم . حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم ، وعند أول توقع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك ؛ وأن الروم سيأخذونهم أسرى ! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون ! ومتى كان ذلك ؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض ؛ وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا . . وفي أي عصر تاريخي ؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانوناً إلا قانون الغابة ؛ ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه ! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة ! . ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان . . ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه . فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره ؛ ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره ؛ بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير - بتأثيره - بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدماً من تطور وتغير .
ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة ؛ ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها . إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب ! ولن يفلتوا منه بالهرب ! ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره : أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم :
{ واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .
وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم ؛ وهم في قبضته - سبحانه - والأرض كلها في قبضته كذلك ؟ ! وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه ؟ !
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال . وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر لما روي ( أنها لما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، وكان قد بعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الموسم فقيل له : لو بعث بها إلى أبي بكر فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا علي رضي الله تعالى عنه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال : أمير أو مأمور قال مأمور ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : أيها الناس إني رسول الله إليكم ، فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ) . ولعل قوله صلى الله عليه وسلم " لا يؤدي عني إلا رجل مني " ليس على العموم ، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته ، بل هو مخصوص بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها ، ويدل عليه أنه في بعض الروايات " لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي " . { واعلموا أنكم غير مُعجزي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم . { وإن الله مُخزي الكافرين } بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة .
{ براءة } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذه الآيات براءة ، ويصح أن ترتفع بالابتداء والخبر في قوله : { إلى الذين } وجاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة فتعرفت تعريفاً ما ، وجاز الإخبار عنها ، وقرأ عيسى بن عمر «براءةً » بالنصب على تقدير التزموا براءة ففيها معنى الإغراء ، و { براءة } معناها تخلص وتبرؤ من العهود التي بينكم وبين الكفار البادئين بالنقض ، تقول برئت إليك من كذا ، فبرىء الله تعالى ورسوله بهذه الآية إلى الكفار من تلك العهود التي كانت ونقضها الكفار ، وقرأ أهل نجران «منِ الله » بكسر النون من «من » ، وهذه الآية حكم من الله عز وجل بنقض العهود والموادعات التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين طوائف المشركين الذين ظهر منهم أو تحسس من جهتهم نقض ، ولما كان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لازما لأمته حسن أن يقول { عاهدتهم } قال ابن إسحاق وغيره من العلماء : كانت العرب قد وافقها{[5502]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو ذلك من الموادعات ، فنقض ذلك بهذه الآية وأجل لجميعهم أربعة أشهر ، فمن كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أشهر بلغ به تمامها ، ومن كان أمده أكثر من أربعة أشهر أتم له الأربعة الأشهر «يسيح فيها » في الأرض أي يذهب مسرحاً آمناً كالَّسْيح من الماء وهو الجاري المنبسط ومنه قول طرفة بن العبد : [ السريع ]
لو خفت هذا منك ما نلتني*** حتى نرى خيلاً أمامي تسيحْ{[5503]}
وهذا ينبىء عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشعر من الكفار نقضاً وتربصاً به إلا من الطائفة المستثناة ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : أول الأشهر الأربعة شوال وحينئذ نزلت الآية ، وانقضاؤها عند انسلاخ الأشهر الحرم وهو انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين يوماً فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم نزول الآية ، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان{[5504]} .
قال القاضي أبو محمد : اعترض هذا بأن الأجل لا يلزم إلا من يوم سمع ويحتمل أن البراءة قد كانت سمعت من أول شوال ، ثم كرر إشهارها مع الأذان يوم الحج الأكبر ، وقال السدي وغيره : بل أولها يوم الأذان وآخرها العشر من ربيع الآخر ، وهي الحرم استعير لها الاسم بهذه الحرمة والأمن الخاص الذي رسمه الله وألزمه فيها ، وهي أجل الجميع ممن له عهد وتحسس منه نقض وممن لا عهد له ، وقال الضحاك وغيره من العلماء : كان من العرب من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة ، وكان منهم من بينه وبينهم عهد وتحسس منهم النقض وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا .
فقوله { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } هو أجل ضربه لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه ، وأول هذا الأجل يوم الأذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر ، وقوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } ، هو حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة ، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوماً أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم ، وقوله { إلى الذين عاهدتم } ، يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض ، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة عاهد لهم المحسر بن خويلد وكان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر . وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما أجل الله أربعة أشهر من كان عهده ينصرم عند انقضائها أو قبله ، والمعنى فقل لهم يا محمد سيحوا ، وأما من كان له عهد يتمادى بعد الأربعة الأشهر فهم الذين أمر الله لهم بالوفاء ،
وقوله { واعلموا أنكم غير معجزي الله } ، معناه واعلموا أنكم لا تفلتون الله ولا تعجزونه هرباً من عقابه ، ثم أعلمهم بحكمه بخزي الكافرين ، وذلك حتم إما في الدنيا وإما في الآخرة .
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر }
الفاء للتفريع على معنى البراءة ، لأنّها لمّا أمر الله بالإذان بها كانت إعلاماً للمشركين ، الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين ، فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنّهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات . فالتقدير : فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة .
ويجوز تقدير قول محذوف مفرّع على البراءة من عهودهم ، أي فقل لهم : سيحوا في الأرض أربعة أشهر .
والسياحة حقيقتها السير في الأرض . ولمّا كان الأمر بهذا السير مفرّعاً على البراءة من العهد ، ومقرّراً لحرمة الأشهر الحرام ، علم أنّ المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض ، وليس هو سيرهم في أرض قومهم ، دلّ على ذلك إطلاق السياحة وإطلاق الأرض ، فكان المعنى : فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض .
وهذا تأجيل خاصّ بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة ، ونهايته نهاية محرّم في آخر الأشهر الحرم المتوالية ، وهي : ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم . وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق : وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كلّ قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم : هي أربعة أشهر تبتدىء من عاشر ذي الحجّة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر ، فيكون قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } [ التوبة : 5 ] ( أي من ذلك العام ) تنهيةً لذلك الأجل روعي فيها المدّة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم ، وذلك نهاية المحرّم .
وقيل : الأشهر الأربعةُ هي المعروفة عندهم في جميع قبائِل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورَجب ، أي فلم يبق للمشركين أمْنٌ إلاّ في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاصّ لتأمينهم ، ولكنّه التأمين المقرّر للأشهر الحرم فيكون المعنى : البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرّر للأشهر الحرم . وحكى السهيلي في « الروض الأنف » أنّه قيل إنّه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجّة والمحرم من ذلك العام ، وأنّه جعل ذلك أجلاً لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام .
وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم ، وبأنّ ما دون تلك الأشهر حَرب بين المسلمين والمشركين ، وسيقع التصريح بذلك .
{ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين } .
عطف على { فسيحوا } داخل في حكم التفريع ، لأنّه لمّا أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احْتراساً من تطرّق الغرور ، وتهديداً بأنّ لا يطمئنوا من أنْ يسلّط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم ، وإن قبعوا في ديارهم .
وافتتاح الكلام ب { واعلموا } للتنبيه على أنّه ممّا يحقّ وعيه ، والتدبر فيه ، كقوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } في سورة الأنفال ( 24 ) ، وقد تقدّم التنبيه عليه .
والمُعجز اسم فاعل ، من أعجز فلاناً إذا جعَله عاجزاً عن عمل مَّا ، فلذلك كان بمعنى الغالب والفائِت ، الخارج عن قدرة أحد ، فالمعنى : أنّكم غير خارجين عن قدرة الله ، ولكنّه أمّنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس .
وعُطف قوله : { وأن الله مخزي الكافرين } على قوله : { أنكم غير معجزي الله } فهو داخل في عمل { واعلموا } فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفاً .
وكان ذكر { الكافرين } إخراجاً على خلاف مقتضى الظاهر : لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول : وإنّ الله مخزيكم ، ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سبيبة الكفر في الخزي .
والإخزاء : الإذلال . والخزي بكسر الخاء الذلّ والهوان ، أي مقدّر للكافرين الإذلال : بالقتل ، والأسر ، وعذاب الآخرة ، ما داموا متلبّسين بوصف الكفر .