تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (102)

ولهذا ذكر تعالى حكمته في ذلك فقال : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } ، وهو جبريل الرسول المقدس المنزه عن كل عيب وخيانة وآفة .

{ بِالْحَقِّ } ، أي : نزوله بالحق ، وهو مشتمل على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه ، فلا سبيل لأحد أن يقدح فيه قدحا صحيحا ؛ لأنه إذا علم أنه الحق علم أن ما عارضه وناقضه باطل .

{ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا } ، عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت ، فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي ، وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق ، وإذا شرع حكما [ من الأحكام ] ثم نسخه ، علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم ، وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية .

{ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، أي : يهديهم إلى حقائق الأشياء ، ويبين لهم الحق من الباطل والهدى من الضلال ، ويبشرهم أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا . وأيضا فإنه كلما نزل شيئا فشيئا ، كان أعظم هداية وبشارة لهم مما لو أتاهم جملة واحدة وتفرق الفكر فيه ، بل ينزل الله حكما وبشارة [ أكثر ]{[464]} فإذا فهموه وعقلوه وعرفوا المراد منه وترووا منه أنزل نظيره وهكذا . ولذلك بلغ الصحابة رضي الله عنهم به مبلغا عظيما ، وتغيرت أخلاقهم وطبائعهم ، وانتقلوا إلى أخلاق وعوائد وأعمال فاقوا بها الأولين والآخرين .

وكان أعلى وأولى لمن بعدهم أن يتربوا بعلومه ويتخلقوا بأخلاقه ، ويستضيئوا بنوره في ظلمات الغي والجهالات ، ويجعلوه إمامهم في جميع الحالات ، فبذلك تستقيم أمورهم الدينية والدنيوية .


[464]:- زيادة من هامش ب.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (102)

90

( قل : نزله روح القدس من ربك بالحق ) . . فما يمكن أن يكون افتراء . وقد نزله ( روح القدس ) جبريل عليه السلام - ( من ربك ) لا من عندك ( بالحق ) لا يتلبس به الباطل ( ليثبت الذين آمنوا ) الموصولة قلوبهم بالله ، فهي تدرك أنه من عند الله ، فتثبت على الحق وتطمئن إلى الصدق ( وهدى وبشرى للمسلمين ) بما يهديهم إلى الطريق المستقيم ، وبما يبشرهم بالنصر والتمكين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (102)

فقال تعالى مجيبا لهم : { قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } ، أي : جبريل ، { مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } ، أي : بالصدق والعدل ، { لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا } ، فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا ، وتخبت له قلوبهم ، { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، أي : وجعله هاديا [ مهديا ]{[16696]} وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله .


[16696]:زيادة من ت.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (102)

جواب عن قولهم : { إنما أنت مفتر } [ سورة النحل : 101 ] فلذلك فصل فعل { قل } لوقوعه في المحاورة ، أي قل لهم : لسْت بمفتر ولا القرآن بافتراء بل نزّله روح القدس من الله . وفي أمره بأن يقول لهم ذلك شدّ لعزمه لكيلا يكون تجاوزه الحدّ في البهتان صارفاً إيّاه عن محاورتهم .

فبعد أن أبطل الله دعواهم عليه أنه مفتر بطريقة النّقض أمر رسوله أن يبيّن لهم ماهيّة القرآن . وهذه نكتة الالتفات في قوله تعالى : { من ربك } الجاري على خلاف مقتضى ظاهر حكاية المقول المأمور بأن يقوله ، لأن مقتضى الظاهر أن يقول : من ربي ، فوقع الالتفات إلى الخطاب تأنيساً للنبيء صلى الله عليه وسلم بزيادة توغّل الكلام معه في طريقة الخطاب .

واختير اسم الربّ لما فيه من معنى العناية والتدبير .

و { روح القدس } : جبريل . وتقدّم عند قوله تعالى { وأيّدناه بروح القدس } في سورة البقرة ( 87 ) . والروح : المَلَك ، قال تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا } [ سورة مريم : 17 ] ، أي ملَكاً من ملائكتنا .

و{ القُدس } : الطُهر . وهو هنا مراد به معنياه الحقيقي والمجازي الذي هو الفضل وجلالة القدر .

وإضافة الروح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصّفة ، كقولهم : حاتم الجود ، وزيد الخَير . والمراد : حَاتم الجواد ، وزيد الخيّر . فالمعنى : الملك المقدس .

والباء في { بالحق } للملابسة ، وهي ظرف مستقرّ في موضع الحال من الضمير المنصوب في { نزله } مثل { تَنبُتُ بالدُهن } [ سورة المؤمنون : 20 ] ، أي ملابساً للحقّ لا شائبة للباطل فيه .

وذكرت علّة من عِلل إنزال القرآن على الوصف المذكور ، أي تبديل آية مكان آيةٍ ، بأن في ذلك تثبيتاً للذين آمنُوا إذ يفهمون محمل كل آية ويهتدون بذلك وتكون آيات البشرى بشارة لهم وآيات الإنذار محمولة على أهل الكفر .

ففي قوله تعالى : { نزله روح القدس من ربك } إبطال لقولهم : { إنما أنت مفتر } [ سورة النحل : 101 ] ، وفي قوله تعالى : { بالحق } إيقاظ للناس بأن ينظروا في حكمة اختلاف أغراضه وأنها حقّ .

وفي التعليل بحكمة التثبيت والهدى والبُشرى بيانٌ لرسوخ إيمان المؤمنين وسداد آرائهم في فهم الكلام السامي ، وأنه تثبيت لقلوبهم بصحة اليقين وهدًى وبشرى لهم .

وفي تعلّق الموصوللِ وصلته بفعل التثبيت إيماء إلى أن حصول ذلك لهم بسبب إيمانهم ، فيفيد تعريضاً بأن غير المؤمنين تقصر مداركهم عن إدراك ذلك الحقّ فيختلط عليهم الفهم ويزدادون كفراً ويضلّون ويكونُ نذارة لهم .

والمراد بالمسلمين الذين آمنوا ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : وهدى وبشرى لهم ، فعدل إلى الإظهار لزيادة مدحهم بوصف آخر شريف .

وقوله تعالى : { وهدى وبشرى } عطف على الجار والمجرور من قوله : { ليثبت } ، فيكون { هدى وبشرى } مصدرين في محل نصب على المفعول لأجله ، لأن قوله { ليثبت } وإن كان مجرور اللفظ باللام إذ لا يسوغ نصبه على المفعول لأجله لأنه ليس مصدراً صريحاً .

وأما { هدى وبشرى } فلما كانا مصدرين كانا حقيقين بالنصب على المفعول لأجله بحيث لو ظهر إعرابهما لكانا منصوبين كما في قوله تعالى : { لتركبوها وزينة } [ سورة النحل : 8 ] .