فقالوا معاندين للحق مكذبين لنبيهم : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } أي : الجميع على حد سواء ، وهذا غاية العتو ، فإن قوما بلغت بهم الحال إلى أن صارت مواعظ الله ، التي تذيب الجبال الصم الصلاب ، وتتصدع لها أفئدة أولي الألباب ، وجودها وعدمها -عندهم- على حد سواء ، لقوم انتهى ظلمهم ، واشتد شقاؤهم ، وانقطع الرجاء من هدايتهم ، ولهذا قالوا : { إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأوَّلِينَ } .
ولكن هذه التذكرة وهذا التخويف ، لا يصلان إلى تلك القلوب الجاسية الفظة الغليظة . فإذا الإصرار والعناد والاستهتار .
( قالوا : سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ) . .
فما يعنينا أن تعظ أو ألا تكون أصلا من الواعظين ! وهو تعبير فيه استهانة واستهتار وجفوة . يتبعه ما يشي بالجمود والتحجر والاعتماد على التقليد !
يقول تعالى مخبرًا عن جواب قوم هود له ، بعدما حذرهم وأنذرهم ، وَرَغَّبَهُم ورهبهم ، وبيَّن لهم الحق ووضحه : { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ } أي : لا نرجع عما نحن فيه ، { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [ هود : 53 ] وهكذا الأمر ؛ فإن الله تعالى قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هََذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت عاد لنبيهم هود صلى الله عليه وسلم : معتدل عندنا وعظك إيانا ، وتركك الوعظ ، فلن نؤمن لك ولن نصدّقك على ما جئتنا به .
أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشادَه فجعلوا وعظهُ وعدمه سواء ، أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم .
والهمزة للتسوية . وتقدم بيانها عند قوله : { سواءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } في سورة البقرة ( 6 ) .
والوعظ : التخويف والتحذير من شيء فيه ضر ، والاسم الموعظة . وتقدم في قوله : { وهدى وموعظة للمتقين } في سورة العقود ( 46 ) .
ومعنى : { أم لم تكن من الواعظين } أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين ، أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء ، وهو أشدّ في نفي الصفة عنه من أن لو قيل : أم لم تَعظ ، كما تقدم في قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة ( 67 ) ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى : { وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) ، وتقدم آنفاً قوله في قصة نوح { لتكونَنَّ من المرجومين } [ الشعراء : 116 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فردوا عليه،عليه السلام، {قالوا سواء علينا أوعظت} بالعذاب {أم لم تكن من الواعظين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت عاد لنبيهم هود صلى الله عليه وسلم: معتدل عندنا وعظك إيانا وتركك الوعظ، فلن نؤمن لك ولن نصدّقك على ما جئتنا به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فقالوا عند ذلك جوابا له: {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين} الوعظ: هو الإخبار عن عواقب الأمور من ترغيب ترهيب؛ أي سواء علينا أتخوفنا العذاب، أم لم تخوفنا، لا نصدقك، ولا نجيبك إلى ما تدعونا إليه. قال بعضهم: الوعظ هو النهي كقوله: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا} [النور: 17] أي ينهاكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... والوعظ: حث بما فيه تليين القلب للانقياد إلى الحق، والوعظ: زجر عما لا يجوز فعله. ومعنى "سواء "أي كل واحد من الأمرين مثل الآخر، حصول الوعظ وارتفاعه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لو قيل: {أَوَعَظْتَ} أو لم تعظ، كان أخصر. والمعنى واحد. قلت: ليس المعنى بواحد وبينهما فرق، لأنّ المراد: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ، أو لم تكن أصلاً من أهله ومباشريه، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك: أم لم تعظ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قالوا} راضين بما عندهم من داء الإعجاب، الموقع في كل ما عاب، {سواء علينا أوعظت} أي خوفت وحذرت وكنت علامة زمانك في ذلك بأن تقول منه ما لم يقدر أحد على مثله، دل على ذلك قوله: {أم لم تكن من الواعظين} أي متأهلاً لشيء من رتبة الراسخين في الوعظ، معدوداً في عدادهم، مذكوراً فيما بينهم، فهو أبلغ من "أم لم تعظ "أو "تكن واعظاً، والوعظ، كما قال البغوي: كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد. والمعنى أن الأمر مستوٍ في الحالتين في أنا لا نطيعك في شيء.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فإنا لا نرعوي عما نحن عليه. قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به عليه السلام.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
أي هوّن عليك وأرح نفسك، فكل هذا تعب ضائع، وجهاد في غير عدو، وضرب في حديد بارد، فإنا لن نرجع عما نحن عليه، وقد حكى سبحانه قولهم في سورة هود: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} (هود: 53).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فما يعنينا أن تعظ أو ألا تكون أصلا من الواعظين! وهو تعبير فيه استهانة واستهتار وجفوة. يتبعه ما يشي بالجمود والتحجر والاعتماد على التقليد!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أجابوا بتأييسه من أن يقبلوا إرشادَه فجعلوا وعظهُ وعدمه سواء، أي هما سواء في انتفاء ما قصده من وعظه وهو امتثالهم. والهمزة للتسوية...ومعنى: {أم لم تكن من الواعظين} أم لم تكن في عداد الموصوفين بالواعظين، أي لم تكن من أهل هذا الوصف في شيء، وهو أشدّ في نفي الصفة عنه من أن لو قيل: أم لم تَعظ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الوعظ يجمع بين معنى التذكير بالخير وإثارة النفس إلى الخير، والزجر المقترن بالتخويف، وقد جمع كلام نبي الله هود على المعنيين، فهو أولا ذكرهم بالنعم التي هي خير محض، ثم أنذرهم بالعذاب الشديد، فقالوا مصرين على ما هم عليه {قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ}، أي تساوي عندنا حالك إذا كنت الواعظ المذكر بالنعم، والمنذر بالنقم، أم لم تكن من الواعظين، بّأن تركتنا في أمورنا، وحالنا.
فماذا كان ردهم على مقالة نبيهم وموعظته لهم؟.
{قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين}
وقولهم {أوعظت} دليل على أن الحق لا بد أن يظهر، ولو على ألسنة المكابرين، ولا يكون الوعظ إلا لمن علم حكما، ثم تركه، فيأتي الواعظ ليذكره به، فهو- إذن- مرحلة ثانية بعد التعليم، فهذا القول منهم اعتراف ودليل أنهم علموا المطلوب منهم، ثم غفلوا عنه.
وهؤلاء يقولون لنبيهم {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين} يعني: أرح نفسك، فسواء علينا وعظك وعدم وعظك، ونلحظ أنهم قالوا: {أم لم تكن من الواعظين} ولم يقولوا مثلا: سواء علينا أوعظت أم لم تعظ؛ لأن نفي الوعظ يثبت له القدرة عليه.
إنما {لم تكن من الواعظين} يعني: امتنع منك الوعظ نهائيا، وكأنهم لا يريدون مسألة الوعظ هذه أبدا، حتى في المستقبل لن يسمعوا له.