وقل لهم : إن ما جئتهم به وما يعرضون عنه أكبر وأعظم مما يظنون . وإن وراءه ما وراءه مما هم عنه غافلون :
( قل : هو نبأ عظيم . أنتم عنه معرضون ) . .
وإنه لأمر أعظم بكثير من ظاهره القريب . إنه أمر من أمر الله في هذا الوجود كله . وشأن من شؤون هذا الكون بكامله . إنه قدر من قدر الله في نظام هذا الوجود . ليس منفصلاً ولا بعيداً عن شأن السماوات والأرض ، وشأن الماضي السحيق والمستقبل البعيد .
ولقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشاً في مكة ، والعرب في الجزيرة ، والجيل الذي عاصر الدعوة في الأرض . ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان ؛ ويؤثر في مستقبل البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها ؛ ويكيف مصائرها منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله ، ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي قدره الله له .
ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبأ العظيم . سواء في ذلك من آمن به ومن صدّ عنه . ومن جاهد معه ومن قاومه . في جيله وفي الأجيال التي تلته . ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم .
ولقد أنشأ من القيم والتصورات ، وأرسى من القواعد والنظم في هذه الأرض كلها ، وفي أجيال البشرية جميعها ، ما لم يكن العرب يتصورونه ولو في الخيال !
وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغير وجه الأرض ؛ ويوجه سير التاريخ ؛ ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة ؛ ويؤثر في ضمير البشرية وفي واقعها ؛ ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله ، وبالحق الكامن في خلق السماوات والأرض وما بينهما . وأنه ماض كذلك إلى يوم القيامة . يؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة .
والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر . لا يدركون طبيعته وارتباطها بطبيعة الوجود ؛ ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود ؛ ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضاً واقعياً ، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبأ الذين يهمهم دائماً أن يصغروا من شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ . . ومن ثم فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل . وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان . .
ولقد كان العرب الأولون يظنون أن الأمر هو أمرهم وأمر محمد بن عبدالله [ صلى الله عليه وسلم ] واختياره من بينهم ، لينزل عليه الذكر . وكانوا يحصرون همهم في هذه الشكلية . فالقرآن يوجه أنظارهم بهذا إلى أن الأمر أعظم من هذا جداً . وأنه أكبر منهم ومن محمد بن عبد الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأن محمداً ليس إلا حاملاً لهذا النبأ ومبلغاً ؛ وأنه لم يبتدعه ابتداعاً ؛ وما كان له أن يعلم ما وراءه لولا تعليم الله إياه ؛ وما كان حاضراً ما دار في الملأ الأعلى منذ البدء إنما أخبره الله :
ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون أن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لقومك المكذّبيك فيما جئتهم به من عند الله من هذا القرآن ، القائلين لك فيه : إن هذا إلا اختلاق هُوَ نَبأٌ عَظِيمٌ يقول : هذا القرآن خبر عظيم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، قال : حدثنا أبُو أُسامة ، عن شبل بن عباد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( قلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيمٌ أنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) قال : القرآن .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح ، أن رجلاً قال له : أتقضي عليّ بالنبأ ؟ قال : فقال له شريح : أوَ لَيْس القرآن نبأ ؟ قال : وتلا هذه الاَية : ( قُلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيمٌ ) قال : وقَضَى عليه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( قُلْ هُو نَبأٌ عَظِيمٌ أنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال : القرآن .
إعادة الأمر بالقَول هنا مستأنَفاً . والعدولُ عن الإِتيان بحرف يعطف المقول أعني { هُوَ نَبؤٌا عَظِيمٌ } على المقول السابق أعني { أنا مُنذِرٌ } [ ص : 65 ] ، عدول يشعر بالاهتمام بالمقول هنا كي لا يؤتى به تابعاً لمقوللٍ آخر فيضعف تصدي السامعين لوعيه .
وجملة { قُلْ هو نبؤا عظيمٌ أنتُم عنه مُعرضونَ } يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالاً من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة خلق آدم وشقاء الشيطان ، فيكون ضمير { هُوَ } ضميرَ شأن يفسره ما بعده وما يُبيّن به ما بعده من قوله : { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقاً لتلقّيها فيكون المراد بالنبأ نبأَ خَلق آدم وما جرى بعده ، ويكون ضمير { يَخْتصِمُونَ } عائداً إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة . ويراد بالاختصام الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلَّغ إليه من الملائكة أمرَ الله بالسجود لآدم ، فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعُدّ منهم قبل أن يطرد من السماء .
ويجوز أن تكون جملة { قُلْ هو نبؤا عظيمٌ } الخ تذييلاً للذي سبق من قوله : { وإنَّ للمتَّقينَ لحُسنَ مئابٍ } [ ص : 49 ] إلى هنا ، تذييلاً يشعر بالتنويه به وبطلب الإِقبال على التدبر فيه والاعتبار به . وعليه يكون ضمير { هُوَ } ضميراً عائداً إلى الكلام السابق على تأويله بالمذكور فلذلك أُتِي لتعريفه بضمير المفرد .
والمراد بالنبأ : خبر الحشر وما أُعد فيه للمتقين من حسن مآب ، وللطاغين من شر مآب ، ومن سوء صحبة بعضهم لبعض ، وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب ، وترددهم في سبب أن لم يجدوا معهم المؤمنين الذين كانوا يَعدّونهم من الأشرار . ووصف النبأ ب { عَظِيمٌ } تهويل على نحو قوله تعالى : { عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 13 ] . وعظمة هذا النبأ بين الأنباء من نوعه من أنباء الشر مثل قوله : { فساد كبير } [ الأنفال : 73 ] ، فتم الكلام عند قوله تعالى : { أنتم عنه معرضون } .
فتكون جملة { ما كانَ لي مِن علم بالملأ الأعلى } إلى قوله : { نَذِيرٌ مبينٌ } استئنافاً للاستدلال على صدق النبأ بأنه وحي من الله ولولا أنه وحي لما كان للرسول صلى الله عليه وسلم قِبَل بمعرفة هذه الأحوال على حد قوله تعالى : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } [ آل عمران : 44 ] ، ونظائر هذا الاستدلال كثيرة في القرآن .
وتكون جملة { إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً } [ ص : 71 ] إلى آخره استئنافاً ابتدائياً .
وعلى هذا فضمير { يختصمون } عائد إلى أهل النار من قوله : { تخاصُمُ أهللِ النارِ } [ ص : 64 ] إذ لا تخاصم بين أهل الملأ الأعلى . والمعنى : ما كان لي من علم بعالَم الغيب وما يجري فيه من الإِخبار بما سيكون إذ يَختصم أهل النار في النار يوم القيامة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل هو نبأ عظيم} القرآن حديث عظيم لأنه كلام الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لقومك المكذّبيك فيما جئتهم به من عند الله من هذا القرآن، القائلين لك فيه: إن هذا إلا اختلاق "هُوَ نَبأٌ عَظِيمٌ "يقول: هذا القرآن خبر عظيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الثاني: البعث والحشر هو نبأ عظيم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قال صاحب التحرير: سياق الآية وظاهرها أنه يريد بقوله: {قل هو نبأ عظيم}، ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولة الأتباع مع السادات؛ لأنه من أحوال البعث، وقريش كانت تنكر البعث والحساب والعقاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ثبت بهذا وحدانيته وقدرته ولم يزعهم ذلك عن ضلالهم، ولا ردهم عن عتوهم ومحالهم، مع كونه موجباً لأن يقبل كل أحد عليه ولا يعدل أبداً عنه، قال آمراً له بما ينبههم على عظيم خطئهم:
{قل هو نبؤا عظيم}: خبر يفوت الوصف في الجلال والعظم بدلالة العبارة والصفة لا يعرض عن مثله إلا غافل لا وعي له ولا شيء من رأى...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{قُلْ} تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير، لا بد من الاعتناء به أمراً وائتماراً...
{نبأ عظِيمٌ} خبر ذو فائدة عظيمة جداً لا ريب فيه أصلاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقل لهم: إن ما جئتهم به وما يعرضون عنه أكبر وأعظم مما يظنون، وإن وراءه ما وراءه مما هم عنه غافلون، وإنه لأمر أعظم بكثير من ظاهره القريب؛ إنه أمر من أمر الله في هذا الوجود كله، وشأن من شؤون هذا الكون بكامله؛ إنه قدر من قدر الله في نظام هذا الوجود، ليس منفصلاً ولا بعيداً عن شأن السماوات والأرض، وشأن الماضي السحيق والمستقبل البعيد. ولقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشاً في مكة، والعرب في الجزيرة، والجيل الذي عاصر الدعوة في الأرض. ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان، ويؤثر في مستقبل البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها، ويكيف مصائرها منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله، ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي قدره الله له. ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبأ العظيم، سواء في ذلك من آمن به ومن صدّ عنه، ومن جاهد معه ومن قاومه، في جيله وفي الأجيال التي تلته، ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم، ولقد أنشأ من القيم والتصورات، وأرسى من القواعد والنظم في هذه الأرض كلها، وفي أجيال البشرية جميعها، ما لم يكن العرب يتصورونه ولو في الخيال! وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغير وجه الأرض ويوجه سير التاريخ ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة، ويؤثر في ضمير البشرية وفي واقعها ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله، وبالحق الكامن في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأنه ماض كذلك إلى يوم القيامة، يؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة.
والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر، لا يدركون طبيعته وارتباطها بطبيعة الوجود، ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود، ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضاً واقعياً، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبأ الذين يهمهم دائماً أن يصغروا من شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ..
ومن ثم فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان.. ولقد كان العرب الأولون يظنون أن الأمر هو أمرهم وأمر محمد بن عبدالله [صلى الله عليه وسلم] واختياره من بينهم؛ لينزل عليه الذكر، وكانوا يحصرون همهم في هذه الشكلية.
فالقرآن يوجه أنظارهم بهذا إلى أن الأمر أعظم من هذا جداً، وأنه أكبر منهم ومن محمد بن عبد الله [صلى الله عليه وسلم] وأن محمداً ليس إلا حاملاً لهذا النبأ ومبلغاً وأنه لم يبتدعه ابتداعاً وما كان له أن يعلم ما وراءه لولا تعليم الله إياه، وما كان حاضراً ما دار في الملأ الأعلى منذ البدء إنما أخبره الله: ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون أن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين...