{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : سويت جسمه وتم ، { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } فوطَّن الملائكة الكرام أنفسهم على ذلك ، حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه ، امتثالا لربهم ، وإكراما لآدم عليه السلام ، فلما تم خلقه في بدنه وروحه ، وامتحن اللّه آدم والملائكة في العلم ، وظهر فضله عليهم ، أمرهم اللّه بالسجود .
لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري ، لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض ؛ وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له . حدود العمارة ومقتضياتها من قوى وطاقات .
لقد أودعه القدرة على الارتقاء في المعرفة . ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بمصدر تلك النفخة ، واستمد من هذا المصدر في استقامة . فأما حين ينحرف عن ذلك المصدر العلوي فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق ، ولا تتجه الاتجاه المتكامل المتناسق المتجه إلى الأمام ؛ وتصبح هذه التيارات المتعارضة خطراً على سلامة اتجاهه . إن لم تقده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية ، تهبط به في سلم الارتقاء الحقيقي . ولو تضخمت علومه وتجاربه في جانب من جوانب الحياة .
وما كان لهذا الكائن الصغير الحجم ، المحدود القوة ، القصير الأجل ، المحدود المعرفة . . ما كان له أن ينال شيئاً من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة . . وإلا فمن هو ? إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهزيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء . وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم . ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه . . فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن ؛ إلا بهذا السر اللطيف العظيم ? إنه بهذا السر كريم كريم . فإذا تخلى عنه أو انفصم منه ارتد إلى أصله الزهيد . . من طين !
وقوله : ( فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي ) : يقول تعالى ذكره : فإذا سوّيت خلقه ، وعَدّلْت صورته ، ونفخت فيه من روحي ، قيل : عنى بذلك : ونفخت فيه من قُدرتي . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي قال : من قدرتي .
( فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) : يقول : فاسجدوا له وخِرّوا له سُجّدا .
{ سويته } يريد به شخصه . { ونفخت } هي عبارة عن إجراء الروح فيه ، هي عبارة على نحو ما يفهم من إجراء الأشياء بالنفخ .
وقوله : { من روحي } هي إضافة ملك إلى مالك ، لأن الأرواح كلها هي ملك لله تعالى ، وأضاف إلى نفسه تشريفاً .
وقوله : { ساجدين } اختلف الناس فيه ، فقالت فرقة : على السجود المتعارف . وقالت فرقة معناه : خاضعين على أصول السجود في اللغة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فإذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحي" يقول تعالى ذكره: فإذا سوّيت خلقه، وعَدّلْت صورته، "ونفخت فيه من روحي"، قيل: عنى بذلك: ونفخت فيه من قُدرتي...
"فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ": يقول: فاسجدوا له وخِرّوا له سُجّدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إضافة الروح إلى نفسه كإضافة خلق من خلائقه إليه، إذ الروح خلق من خلائقه كسائر الخلائق...
{فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} لولا صرف أهل التأويل سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود، لكنا نصرف الأمر به إلى الخضوع له والاستسلام كما أحوج الملائكة إلى معرفة هذه الأسماء إلى آدم، وبه عرفوها حين قال عز وجل: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]، لكن صرف أهل التأويل سجود الملائكة إلى حقيقة السجود له جائز؛ لأنهم ممتحنون بالأمر والنهي.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قد بينا في ما مضى أن السجود كان لله تعالى وعبادة له، وفيه تفضيلا لآدم على الملائكة.
"ونفخت فيه من روحي" فالروح جسم رقيق هوائي بها يتم كون الحي حيا لتخرقه في مخارق الانسان وهو مشتق من الريح، ومنه الراحة والاستراحة من الكد للخفة على النفس كالريح، ومعنى "ونفخت فيه من روحي": توليت خلقها من غير سبب كالولادة التي تؤدي إليه؛ لأن الله تعالى شرف آدم بهذه الحال وكرمه، وفي الكلام حذف وتقديره إن الله خلق آدم الذي وعدهم بخلقه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
روحُ آدم -وإنْ كانت مخلوقة- فَلَها شَرَفٌ على الأرواح لإفرادها بالذكر، فلمَّا سوَّى خَلْقَ آدم، ورَكَّبَ فيه الروح جلَّلَه بأنوار التخصيص، فوقعَتْ هيبته على الملائكة، فسجدوا لأمره، وظهرَتْ لإبليسَ شقاوتهُ، ووقع -بامتناعه- في اللعنة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} فإذا أتممت خلقه وعدلته.
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} وأحييته وجعلته حساساً متنفساً.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"ونفخت فيه من روحي": من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري، فهذا معنى الإضافة.
"فقعوا له ساجدين": نصب على الحال، وهذا سجود تحية لا سجود عبادة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد نفخ الله من روحه في هذا الكائن البشري؛ لأن إرادته اقتضت أن يكون خليفة في الأرض، وأن يتسلم مقاليد هذا الكوكب في الحدود التي قدرها له، حدود العمارة ومقتضياتها من قوى وطاقات.
لقد أودعه القدرة على الارتقاء في المعرفة، ومن يومها وهو يرتقي كلما اتصل بمصدر تلك النفخة، واستمد من هذا المصدر في استقامة، فأما حين ينحرف عن ذلك المصدر العلوي فإن تيارات المعرفة في كيانه وفي حياته لا تتناسق، ولا تتجه الاتجاه المتكامل المتناسق المتجه إلى الأمام؛ وتصبح هذه التيارات المتعارضة خطراً على سلامة اتجاهه، إن لم تقده إلى نكسة في خصائصه الإنسانية، تهبط به في سلم الارتقاء الحقيقي، ولو تضخمت علومه وتجاربه في جانب من جوانب الحياة، وما كان لهذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوة، القصير الأجل، المحدود المعرفة. ما كان له أن ينال شيئاً من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة.. وإلا فمن هو؟ إنه ذلك الخلق الصغير الضئيل الهزيل الذي يحيا على هذا الكوكب الأرضي مع ملايين الأنواع والأجناس من الأحياء، وما الكوكب الأرضي إلا تابع صغير من توابع أحد النجوم، ومن هذه النجوم ملايين الملايين في ذلك الفضاء الذي لا يدري إلا الله مداه.. فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن؛ إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟ إنه بهذا السر كريم كريم، فإذا تخلى عنه أو انفصم منه ارتد إلى أصله الزهيد.. من طين!...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
تعبير {ونفخت فيه من روحي} في الآيات في صدد خلق آدم قد تكرر في القرآن فاستعمل في سياق خلق الإنسان الأول مطلقا في غير قصة آدم وإبليس، واستعمل في سياق ذكر خلق عيسى، وروح التعبير في مختلف المواضع تلهم قصد التدليل على قدرة الله وتقرير دبيب نسمة الحياة في الإنسان الأول وفي رحم أم المسيح بأمر الله وقدرته وإرادته، فالواجب الوقوف عند هذا الحد مع ملاحظة أن استنتاج وتقرير أي صلة حقيقية بين الله والإنسان عن طريق الروح بمفهومها الحرفي لا معنى له، وليس مما تقتضيه أو تتحمله العبارات والتقريرات القرآنية المتنوعة، وخاصة ضوابط الكنه الرباني في القرآن التي من أهمها جملة {ليس كمثله شيء} حيث يشمل هذا كل ما يتصل به وصفاته وكينونته مما لا سبيل لإدراكه بعقلنا الإنساني، ومما لا تصح فيه أي مماثلة.
أما خلود الروح الإنسانية وبعث البشر بعد الموت وخلودهم في النعيم أو العذاب بعد البعث والحساب مما هو مبثوث تقريره في آيات القرآن التي مرت أمثلة منها، فلا يصح أن يجعل بينه وبين وهم كون الإنسان من روح الله تبعا للوهم الذي تثيره الجملة التي نحن في صددها أي صلة، ولا سيما إنه يرد على ذلك كون نسمة الحياة قد مشترك ومتشابه بين أنواع الحيوان من إنسان وغير إنسان. وكل ما في الأمر أن حكمة الله تعالى قد جعلت الإنسان يمتاز على سائر الأحياء بالعقل المتكامل الذي يكون به مسؤولا عن كسبه ورتب على ذلك حكمة بعثه وحسابه وتخليده في النعيم والعذاب دون سائر الأحياء. والله تعالى أعلم...