{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } أي : هذا وصف الشعراء ، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم ، فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق ، قلت : هذا أشد الناس غراما ، وقلبه فارغ من ذاك ، وإذا سمعته يمدح أو يذم ، قلت : هذا صدق ، وهو كذب ، وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها ، وتروك لم يتركها ، وكرم لم يحم حول ساحته ، وشجاعة يعلو بها على الفرسان ، وتراه أجبن من كل جبان ، هذا وصفهم .
فانظر ، هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، الراشد البار ، الذي يتبعه كل راشد ومهتد ، الذي قد استقام على الهدى ، وجانب الردى ، ولم تتناقض أفعاله ولم تخالف أقواله أفعاله ؟ الذي لا يأمر إلا بالخير ، ولا ينهى إلا عن الشر ، ولا أخبر بشيء إلا صدق ، ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له ، ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له .
فهل تناسب حاله ، حالة الشعراء ، أو يقاربهم ؟ أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه ؟ فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأكمل ، والهمام الأفضل ، أبد الآبدين ، ودهر الداهرين ، الذي ليس بشاعر ، ولا ساحر ، ولا مجنون ، ولا يليق به إلا كل كمال .
وهم يقولون ما لا يفعلون . لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم ، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم ! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها ، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة ، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة !
إن طبيعة الإسلام - وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة ، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة - إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية - في الغالب - لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به . فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه ، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع .
والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوم . فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم ، ولا تتفق مع منهجه الذي يأخذهم به ، دفعهم إلى تغييرها ، وتحقيق المنهج الذي يريد .
ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهومة الطائرة . فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة ، وفق منهجه الضخم العظيم .
ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته - كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ . إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن . منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها ؛ ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها . فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام ، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا ؛ وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع ؛ ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها ، وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا !
وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية ، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام ، في ضوء الإسلام ، ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا .
فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن ، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ .
ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون ، وإلى خفايا النفس البشرية . وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن . وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال .
وقوله : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : وأن أكثر قيلهم باطل وكذب . كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : أكثر قولهم يكذبون ، وعني بذلك شعراء المشركين . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : قال رجل لأبي : يا أبا أسامة ، أرأيت قول الله جلّ ثناؤه : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ألَمْ تَرَ أنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فقال له أبي : إنما هذا لشعراء المشركين ، وليس شعراء المؤمنين ، ألا ترى أنه يقول : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الخ . فقال : فَرّجت عني يا أبا أسامة فرّج الله عنك .
وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم والغزل والابتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه ، وإليه أشار بقوله : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى ، وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين ، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلى الله عليه وسلم لحال أربابهما . وقرأ نافع " يتبعهم " على التخفيف ، و قرىء بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ" يقول: وأن أكثر قيلهم باطل وكذب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر أن هؤلاء الشعراء يقولون ويحثون على أشياء لا يفعلونها هم، وينهون عن أشياء يرتكبونها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا ذَكَرَ الوحيَ وما يأتي به الملائكةُ من قِبَلِ الله ذكر ما يوسوس به الشياطينُ إلى أوليائه، وألحْقَ بهم الشعراءَ الذين في الباطل يهيمون، وفي أعراض الناس يقعون، وفي التشبيهات -عن حدِّ الاستقامة- يخرجون، ويَعِدُون من أنفسهم بما لا يُوفُون، وسبيلَ الكذبِ يسلكون.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ الشِّعْرُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ قَوْلَهُ وَزَمَانَهُ، فَذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا.
الثاني: {أنهم يقولون ما لا يفعلون} وذلك أيضا من علامات الغواة، فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه، وينفرون عن البخل ويصرون عليه، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش، وذلك يدل على الغواية والضلالة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولهذا قال: {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} أي لأنهم لم يقصدوه. وإنما ألجأهم إليه الفن الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهم يقولون ما لا يفعلون. لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة!
إن طبيعة الإسلام -وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة- إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية -في الغالب- لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به. فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع.
والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوم. فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم، ولا تتفق مع منهجه الذي يأخذهم به، دفعهم إلى تغييرها، وتحقيق المنهج الذي يريد.
ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهومة الطائرة. فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة، وفق منهجه الضخم العظيم.
ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته -كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ. إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن. منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها؛ ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها. فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا؛ وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع؛ ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها، وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا!
وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام، في ضوء الإسلام، ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا.
فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ.
ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون، وإلى خفايا النفس البشرية. وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن. وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وشفَّع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال: {وأنهم يقولون ما لا يفعلون}، والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب، والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل: أحسن الشعر أكذبه، والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذباً لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح، وإن كان عليه قرينة كان كذباً معتذَراً عنه فكان غير محمود. وفي هذا إبداء للبَون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يقول إلا حقاً ولا يصانع ولا يأتي بما يضلّل الأفهام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن الموقف ليس موقفاً ضد الشعر والشعراء... بل هو موقف ضد الذهنية الغالبة لدى الشعراء في الظاهرة العامة لسلوكهم، ما يجعلهم يستغلون اهتمام الناس بالشعر كأسلوب يهز المشاعر، ويثير العواطف، في سبيل الوصول إلى مطامعهم وشهواتهم، عندما يحركون الكلمة القصيدة في سوق المزايدات المالية، فيكون لذلك تأثيرٌ سلبيٌّ على حركة الحق في حياة الناس، وبذلك يمكن أن تتضخم صورة غير ضخمة، أو يشرق واقع مظلم من خلال إضاءة الكلمة في مواقعه بعيداً عن حقيقة الضياء في الواقع. وهكذا يشاركون في غلبة الزيف على الحياة في الأشخاص والأوضاع والمواقع. أمَّا إذا كانت القصيدة، في مضمونها، انتصاراً للحق، ودفاعاً عن المظلوم، وإثارةً لحركة الإيمان، فإن الموقف يتبدّل والحكم يختلف، وهذا ما عبرت عنه الآية التالية التي جاءت بمثابة الاستثناء عن تلك القاعدة العامة...