تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (252)

ثم قال تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق } أي : بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور { وإنك لمن المرسلين } فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور ، فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب ، فمنها : أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه ، ثم العمل به ، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم ، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم ، وتحصل له الطاعة منهم ، ومنها : أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء ، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب . ومنها : أن العلم والرأي : مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات ، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها . ومنها : أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان ، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر ، فالأول كما في قولهم لنبيهم { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا ، والثاني في قوله : { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله } ومنها : أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب ، والصادق من الكاذب ، والصابر من الجبان ، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز . ومنها : أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين ، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَيۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (252)

243

وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة :

( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وإنك لمن المرسلين ) . .

تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات ( نتلوها عليك ) . . الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة . . ( نتلوها عليك بالحق ) . . تحمل معها الحق . ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها ، وجعلها دستورا للعباد . وليس هذا الحق لغير الله سبحانه . فكل من يسن للعباد منهجا غيره إنما هو مفتات على حق الله ، ظالم لنفسه وللعباد ، مدع ما لا يملك ، مبطل لا يستحق أن يطاع . فإنما يطاع أمر الله . وأمر من يهتدي بهدى الله . . دون سواه . .

( وإنك لمن المرسلين ) . .

ومن ثم نتلو عليك هذه الآية ؛ ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها ؛ وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله ، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين . .

بهذا ينتهي هذا الدرس القيم الحافل بذخيرة التجارب . وبهذا ينتهي هذا الجزء الذي طوف بالجماعة المسلمة في شتى المجالات وشتى الاتجاهات ؛ وهو يربيها ويعدها للدور الخطير ، الذي قدره الله لها في الأرض ، وجعلها قيمة عليه ، وجعلها أمة وسطا تقوم على الناس بهذا المنهج الرباني - إلى آخر الزمان .