{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي : هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء ، لما اشتمل عليه من المطالب العالية ، والأوامر الحسنة ، وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها ، ودفع مفاسدها ، لصدوره من ربك ، الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس ، وجميع المصالح .
{ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي : فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه ، بل تفكَّر فيه وتأمل ، حتى تصل بذلك إلى اليقين ، لأن التفكر فيه لا محالة ، دافع للشك ، موصل لليقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
يقول الله جل ثناؤه : اعلم يا محمد أن الحقّ ما أعلمك ربك وأتاك من عنده ، لا ما يقول لك اليهود والنصارى . وهذا من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه الصلاة والسلام عن أن القبلة التي وجهه نحوها هي القبلة الحقّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمَن ، ومن بعده من أنبياء الله عزّ وجلّ . يقول تعالى ذكره له : فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربك يا محمد ولا تكوننّ من الممترين ، يعني بقوله : فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي فلا تكونن من الشاكين في أن القبلة التي وجهتك نحوها قبلة إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثني إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه الصلاة والسلام : الحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ يقول : لا تكن في شكّ أنها قبلتك وقبلة الأنبياء من قبلك .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ قال : من الشاكين قال : لا تشكنّ في ذلك . والممتري : مفتعل من المرية ، والمرية هي الشكّ ، ومنه قول الأعشى :
تَدُرّ عَلَىَ أسْؤُقِ المُمْتَرِينَ رَكْضا إذَا ما السّرَابُ ارْجَحَنّ
فإن قال لنا قائل : أوَكان النبيّ صلى الله عليه وسلم شاكا في أن الحقّ من ربه ، أو في أن القبلة التي وجهه الله إليها حقّ من الله تعالى ذكره حتى نهي عن الشكّ في ذلك فَقِيل لَهُ : فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ ؟ قيل : ذلك من الكلام الذي تخرجه العرب مخرج الأمر أو النهي للمخاطب به والمراد به غيره ، كما قال جل ثناؤه : ( يَا أَيّهَا النّبيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ثم قال : ( وَاتّبِعْ ما يُوحَىَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ إن اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا ) فخرج الكلام مخرج الأمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم والنهي له ، والمراد به أصحابه المؤمنون به . وقد بينا نظير ذلك فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته .
{ الحق من ربك } كلام مستأنف ، والحق إما مبتدأ خبره من ربك واللام للعهد ، والإشارة إلى ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو الحق الذي يكتمونه ، أو للجنس . والمعنى أن { الحق } ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا ما لم يثبت كالذي عليه أهل الكتاب ، وإما خبره مبتدأ محذوف أي هو { الحق } ومن ربك حال ، أو خبر بعد خبر . وقرئ بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو مفعول { يعلمون } { فلا تكونن من الممترين } الشاكين في أنه من ربك ، أو في كتمانهم الحق عالمين به ، وليس المراد به نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه ، لأنه غير متوقع منه وليس بقصد واختيار ، بل إما تحقيق الأمر وإنه بحيث لا يشك فيه ناظر ، أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 147 )
وقوله تعالى : { الحق من ربك } ، { الحقُّ } رفع على إضمار الابتداء والتقدير هو الحق ، ويصح أن يكون ابتداء والخبر مقدر بعده( {[1398]} ) ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه { الحقَّ } بالنصب ، على أن العامل فيه { يعلمون } ، ويصح نصبه على تقدير : الزم الحق .
وقوله تعالى : { فلا تكونن من الممترين } ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وامترى في الشيء إذا شك فيه ، ومنه المراء لأن هذا يشك في قول هذا ، وأنشد الطبري - شاهداً على أن الممترين الشاكون- قول الأعشى : [ المتقارب ]
تدر على اسؤق الممترين . . . ركضاً إذا ما السراب ارجحن( {[1399]} )
ووهم في ذلك لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يْمرون الخيل بأرجلهم همزاً لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها( {[1400]} ) ، فليس في البيت معنى من الشك كما قال الطبري( {[1401]} ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.