{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } الذي صدر منه ، وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات ، فقال : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } أي : منزلة عالية ، وقربة منا ، { وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : مرجع .
وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام ، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره ، فالتعرض له من باب التكلف ، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته ، وأنه ارتفع محله ، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ . . } يعود إلى الظن الذى استغفر منه ربه ، وهو ظنه بأن حضور الخصمين إليه بهذه الطريقة غير المألوفة ، القصد منها الاعتداء عليه ، فلما ظهر له أنهما حضرا إليه فى خصومه بينهما ليحكم فيها ، استغفر ربه من ذلك الظن السابق ، فغفر الله - تعالى - له .
فقوله : - تعالى - : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أى : فغفرنا له ذلك الظن الذى استغفر منه . . { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى } أى : لقربه منا ومكانه سامية { وَحُسْنَ مَآبٍ } أى : وحسن مرجع فى الآخرة وهو الجنة .
{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي : ما كان منه مما يقال فيه : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في سجدة " ص " هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب عن ابن عباس أنه قال في السجود في " ص " : ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها .
ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية : أخبرني إبراهيم بن الحسن - هو المقسمي - حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في " ص " وقال : " سجدها داود عليه السلام توبة ونسجدها شكرا " .
تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع :
أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي ، أخبرنا أبو سعيد الكَنْجَرُوذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد ابن خُنَيْس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج : يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود .
قال ابن عباس : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة . رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقال البخاري عند تفسيرها أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أو ما تقرأ : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } [ الأنعام : 84 ] { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } [ الأنعام : 90 ] فكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو ابن عبد الله المزني - أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص " فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال : فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد . تفرد به الإمام أحمد .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزّن الناس للسجود ، فقال : " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تَشَزّنْتُم " . فنزل وسجد وسجدوا . تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح .
وقوله : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العاليات في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح : " المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا "
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر " . ورواه الترمذي من حديث فضيل - وهو ابن مرزوق الأغر - عن عطية به وقال : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار ، حدثنا جعفر بن سليمان : سمعت مالك بن دينار في قوله : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } قال : يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول : يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا . فيقول : وكيف وقد سلبته ؟ فيقول : إني أرده عليك اليوم . قال : فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : فَغَفَرْنا لَهُ ذلكَ فعفونا عنه ، وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك وإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَى يقول : وإن له عندنا لَلْقُرْبة منا يوم القيامة . وبنحو الذي قلنا في قوله : فَغَفَرْنا لَهُ ذلكَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَغَفَرْنا لَهُ ذَلكَ الذنب .
وقوله : ( وَحُسْنِ مآبٍ ) : يقول : مَرْجع ومنقَلَب ينقلب إليه يوم القيامة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وَحُسْن مآبٍ ) : أي حسن مصير .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( وَحُسْنَ مآبٍ ) : قال : حسن المنقَلب .
واسم الإِشارة في قوله : { فغفرنا له ذلك } إلى ما دلت عليه خصومة الخصمين من تمثيل ما فعله داود بصورة قضية الخصمين ، وهذا من لطائف القرآن إذ طوى القصة التي تمثَّل له فيها الخصمان ثم أشار إلى المطوي باسم الإِشارة ، وأتبع الله الخبر عن الغفران له بما هو أرفع درجة وهو أنه من المقرّبين عند الله المرضيّ عنهم وأنه لم يوقف به عند حد الغفران لا غير . والزلفى : القربى ، وهو مصدر أو اسم مصدر . وتأكيد الخبر لإِزالة توهم أن الله غضب عليه إذ فتنه تنزيلاً لمقام الاستغراب منزلة مقام الإِنكار .
والمئاب : مصدر ميمي بمعنى الأوْب . وهو الرجوع . والمراد به : الرجوع إلى الآخرة . وسمي رجوعاً لأنه رجوع إلى الله ، أي إلى حكمة البحْت ظاهراً وباطناً قال تعالى : { إليه أدعو وإليه مئاب } [ الرعد : 36 ] .
وحسن المئاب : حسن المرجع ، وهو أن يرجع رجوعاً حسناً عند نفسه وفي مرأى الناس ، أي له حسن رجوع عندنا وهو كرامة عند الله يوم الجزاء ، أي الجنة يؤوب إليها .