غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ} (25)

{ فغفرنا له ذلك } الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم . ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ، ثم استغفر من تلك الهمة . أو لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم فاستغفر لأجلهم متضرعاً إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه . { و } معنى { خرّ راكعاً } سقط ساجداً . قال الحسن : لأنه لا يكون ساجداً حتى يركع ، أو المراد أن خرّ للسجود مصلياً لأن الركوع قد يعبر به عن الصلاة . ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضاً . ومذهب أبي حنيفة بخلافه . وجوز مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل .

ولا يرد عليه إلا أن داود كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله { لا تخف } { ولا تشطط } وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل استماع كلامه والأول استبعاد محض ؟ وأجيب عن الثاني بأنه ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه لكنه لم يذكر في القرآن ، ومما يؤيد هذا القول ختم ذكر الواقعة بقوله : { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } والزلفى القربة ، والمآب الحسن الجنة . قال مالك بن دينار : إذا كان يوم القيامة يؤتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة يقال : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا - وحاصل التفسير على هذا القول إن الخصمين كانا من الإنس وكانت الخصومة بينهما على الحقيقة ، وكانا خليطين في الغنم ، أو كان الخلطة خلطة الصدقة ، أو الجوار وكان أحدهما موسراً وله نسوان كثيرة من الحرائر والسرائر . والعرب تشبه المرأة بالنعجة والظبية ، والثاني معسراً ما له إلا امرأة واحدة واستنزله عنها ، وكانت الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك كما كانوا يقاسمونهم أموالهم ومنازلهم وما كان ذنب داود إلا خطرة أو همة .

القول الثاني : إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان . فقيل له : إن مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلاً ليس له امرأة واحدة النزول لك ، كان الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به . وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه ، وعلى هذا يجوز أن يكون الخطاب في قوله { وعزني في الخطاب } من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث زوّجها دوني . وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر . وحين وافق حالهما حال داود تنبه فاستغفر . وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب . والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا بغى بعضنا على بعض . أو أرادوا : أرأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست تحكم بيننا ، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده . وعن الحسن : لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل .

القول الثالث : وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء : يوماً للعبادة ، ويوماً للاشتغال بخواص أموره ، ويوماً يجمع بني إسرائيل للوعظ والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلب في صورة حمامة من ذهب فمد يده ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى قريب منه ، وهكذا مرة ثانية وثالثة إلى أن وقعت في كوة فتبعها فوقع بصره على امرأة جميلة تغتسل فنقضت شعرها فغطى جسدها فوقع في نفسه منها ما شغله عن الصلاة ، فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها ، فخرج داود حتى عرف بيتها وسألها من أنت ؟ فأخبرته فقال لها : هل لك زوج ؟ فقالت : نعم . قال : أين هو ؟ قالت : في جند كذا فرجع وكتب إلى أمير جيشه إذا جاءك كتابي هذا فقدم فلاناً في أول التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ففتح الله على يده وسلم . فأمر برده مرة ثانية وثالثة حتى قتل ، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء ، وتزوّج امرأته فبعث الله إليه ملكين في صورة إنسانين فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ومنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهما ، وحين وجد قصتهما مطابقة لحاله علم أنه مبتلى من الله . يروى أنهما قالا حينئذ حكم على نفسه . وقيل : ضحكا وغابا فعلم أن الله ابتلاه بذنبه . ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي في قتل النفس المسلمة بغير حق . فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ولم يذق طعاماً ولا شراباً حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك . ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته موضع كذا ، فأتاه ، واستحل منه فقال : أنت في حل . قال : فلما رجع قال له جبريل : هل أخبرته بجرمك ؟ فقال : لا قال : فإنك لم تعمل شيئاً فارجع وأخبره بالذي صنعت . فرجع داود فأخبره بذلك فقال : أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتماً وبكى أربعين يوماً . فأتاه جبريل وقال : إن الله تعالى يقول : أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزيناً في عمره باكياً على خطيئته . وروي أنه نقش خطيئته على كفه حتى لا ينساها . والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ينكرون القصة على هذا الوجه . روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء . قلت : لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل ، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل .