فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال لما كنتم بهذه المثابة التي يأنف منها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } الأمر بالسجود لله خصوصا ، ليدل ذلك على فضله{[918]} وأنه سر العبادة ولبها ، فإن لبها الخشوع لله{[919]} والخضوع له ، والسجود هو أعظم حالة يخضع بها العبد{[920]} فإنه يخضع قلبه وبدنه ، ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة موضع وطء الأقدام . ثم أمر بالعبادة عموما ، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة .
تم تفسير سورة النجم ، والحمد لله الذي لا نحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده ، وصلى الله على محمد وسلم تسليما كثيرا .
وقوله - سبحانه - : { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم ، ونهى لهم عن الكفر والضلال .
فالفاء فى قوله - تعالى - : { فاسجدوا } لترتيب الأمر بالسجود ، على الإنذار بالعذاب الشديد إذا ما استمروا فى كفرهم ولهوهم .
والمراد بالسجود : الخضوع لله - تعالى - وإخلاص العبادة له ، ويندرج فيه سجود الصلاة ، وسجود التلاوة .
أى : اتركوا ما أنتم عليه من فر وضلال . وخصوا الله - تعالى - بالخضوع الكامل ، وبالعبادة التامة ، التى لا شرك فيها لأحد معه - سبحانه - .
قال الآلوسى : وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبى - صلى الله عليه وسلم - عندها .
أخرج الشيخان ، وأبو داود ، والنسائى عن ابن مسعود قال : " أول سورة أنزلت فيها سجدة : سورة " النجم " فسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلا " .
هذا ، وقد ذكر بعض الفسرين قصة الغرانيق . وملخصها أن الرصول - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم ، فلما بلغ قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى .
وقد قال الإمام ابن كثير عند حديثه عن هذه القصة : إنها من روايات وطرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح .
وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ذكرنا ما يدل على بطلان هذه القصة من جهة النقل ومن جهة العقل .
ثم قال آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص : { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } {[27723]} أي : فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا .
قال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس . انفرد به دون مسلم{[27724]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا رباح ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن جعفر بن المطلب بن أبي وَدَاعة ، عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم ، فسجد وسَجَد من عنده ، فرفعتُ رأسي وأبيتُ أن أسجد ، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب ، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا يقرؤها {[27725]} إلا سجد معه .
وقد رواه النسائي في الصلاة ، عن عبد الملك بن عبد الحميد ، عن أحمد بن حنبل ، به{[27726]} .
ذكر حديث له مناسبة بما تقدم من قوله تعالى : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى . أَزِفَتِ الآزِفَة } ، فإن النذير هو : الحذر لما يعاين من الشر ، الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم ، كما قال : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد } [ سبأ : 46 ] . وفي الحديث : " أنا النذير العُريان " أي : الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئًا ، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك ، فجاءهم عُريانا مسرعا مناسب لقوله : { أَزِفَتِ الآزِفَة } أي : اقتربت القريبة ، يعني : يوم القيامة كما قال في أول السورة التي بعدها : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [ القمر : 1 ] ، قال الإمام أحمد :
حدثنا أنس بن عياض ، حدثني أبو حازم - لا أعلم إلا عن سهل بن سعد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خُبْزَتهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه " . وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أبو ضَمْرَة : لا أعلم إلا عن سهل بن سعد - قال : " مثلي مثل الساعة كهاتين " وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ، ثم قال : " مثلي ومثل الساعة كمثل فَرسَي رِهَان " ، ثم قال : " مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة ، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه : أتيتم أتيتم " . ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا ذلك " {[27727]} . وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحِسان . ولله الحمد والمنة ، وبه الثقة والعصمة .
آخر [ تفسير ] {[27728]} سورة النجم ولله الحمد والمنة
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.