{ 25-26 } { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا }
لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب ، في شأن أهل الكهف ، لعدم علمهم بذلك ، وكان الله عالم الغيب والشهادة ، العالم بكل شيء ، أخبره بمدة لبثهم .
قال قتادة ومطر الوراق وغيرهما { ولبثوا في كهفهم } الآية حكاية عن بني إسرائيل أنهم قالوا ذلك ، واحتجا بأن قراءة عبد الله بن مسعود ، وفي مصحفه : «وقالوا لبثوا في كهفهم » ، وذلك عند قتادة ، على غير قراءة عبد الله ، عطف على { ويقولون سبعة } [ الكهف : 22 ] ، ذكر الزهراوي ، ثم أمر الله نبيه بأن يرد العلم إليه رداً على مقالهم وتقييداً له ، قال الطبري : وقال بعضهم : لو كان ذلك خبراً من الله ، لم يكن لقوله { قل الله أعلم بما لبثوا } وجه مفهوم .
قال القاضي أبو محمد : أي ذهب بهذا القائل ، وما الوجه المفهوم البارع إلا أن تكون الآية خبراً عن لبثهم ، ثم قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم { قل الله أعلم بما لبثوا } فخبره هذا هو الحق من عالم الغيب فليزل اختلافكم أيها المخرصون ، وقال المحققون : بل قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } الآية خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم ، ثم اختلف في معنى قوله بعد الإخبار { قل الله أعلم بما لبثوا } فقال الطبري : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله نبيه أن هذه المدة في كونهم نياماً ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر ، فأمره الله أن يرد علم ذلك إليه فقوله على هذا التأويل { لبثوا } الأول ، يريد في نوم الكهف ، و { لبثوا } الثاني : يريد بعد الإعثار موتى إلى مدة محمد عليه السلام ، إلى وقت عدمهم بالبلى ، على الاختلاف الذي سنذكره بعد ، وقال بعضها إنه لما قال : { وازدادوا تسعاً } لم يدر الناس أهي ساعات ، أم أيام ، أم جمع ، أم شهور ، أم أعوام . واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمره الله برد العلم إليه ، يريد في التسع فهي على هذا مبهمة ، وظاهر كلام العرب والمفهوم منه أنها أعوام ، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير ، وقد بقيت من الحواريين بقية ، وحكى النقاش ما معناه : أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأمم ، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع ، إذ المفهوم عنده من السنين القمرية ، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين ، وقرأ الجمهور «ثلاثمائةٍ سنينَ » بتنوين مائة ونصب «سنينَ » على البدل من «ثلاثمائةٍ » ، وعطف البيان ، وقيل على التفسير والتمييز{[7786]} وقرأ حمزة والكسائي ويحيى وطلحة والأعمش بإضافة «مائة » إلى «سنين » ، وترك التنوين ، وكأنهم جعلوا «سنين » بمنزلة سنة ، إذ المعنى بهما واحد قال أبو علي : إذ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب ، قد تضاف إلى الجموع ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «ثلاثمائة سنة » ، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون » ، بالواو ، وقرأ أبو عمرو بخلاف : «تَسعاً » بفتح التاء ، وقرأ الجمهور «تِسعاً » بكسر التاء .
رجوع إلى بقية القصة بعد أن تخلل الاعتراض بينها بقوله : { فلا تمار فيهم } إلى قوله : { رشداً } [ الكهف : 22 24 ] .
فيجوز أن تكون جملة ولبثوا } عطفاً على مقولهم في قوله : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] أي ويقولون : لبثوا في كهفهم ، ليكون موقع قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } [ الكهف : 26 ] كموقع قوله السابق { قل ربي أعلم بعدتهم } [ الكهف : 22 ] ، وعليْه فلا يكون هذا إخباراً عن مدة لبثهم . وعن ابن مسعود أنه قرأ وقالوا لبثوا في كهفهم } إلى آخره ، فذلك تفسير لهذا العطف .
ويجوز أن يكون العطف على القصة كلها . والتقدير : وكذلك أعثرنا عليهم إلى آخره ، وهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسعَ سنين .
وعلى اختلاف الوجهين يختلف المعنى في قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } [ الكهف : 26 ] كما سيأتي . ثم إن الظاهر أن القرآن أخبر بمدة لبث أهل الكهف في كهفهم ، وأن المراد لبثُهم الأول قبل الإفاقة وهو المناسب لسبق الكلام على اللبث في قوله : { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } [ الكهف : 19 ] ، وقد قدمنا عند قوله تعالى : { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم } [ الكهف : 9 ] الخ . . . أن مؤرخي النصارى يزعمون أن مدة نومة أهل الكهف مائتان وأربعون سنة . وقيل : المراد لبثهم من وقت موتهم الأخير إلى زمن نزول هذه الآية .
والمعنى : أن يقدر لبثهم بثلاثمائة وتسع سنين . فعُبّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة وزيادة تسع ، ليعلم أن التقدير بالسنين القمرية المناسبة لتاريخ العرب والإسلام مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسية التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف وهم أهل بلاد الروم . قال السهيلي في الروض الأنف } : النصارى يعرفون حديث أهل الكهف ويؤرخون به . وأقول : واليهود الذين لَقّنوا قريشاً السؤالَ عنهم يؤرخّون الأشهر بحساب القمر ويؤرخون السنين بحساب الدورة الشمسية ، فالتفاوت بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسيةً ، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسيةٍ بثلاث سنين زائدة قمرية . كذا نقله ابن عطية عن النقاش المفسر . وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد . وهذا من علم القرآن وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به .
وقرأ الجمهور { ثلاث مائةٍ } بالتنوين . وانتصب { سنين } على البدلية من اسم العدد على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوباً ، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك .
وقرأه حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين على أنه تمييز للمائة . وقد جاء تمييز المائة جمعاً ، وهو نادر لكنه فصيح .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قوله "وَلَبَثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا "فقال بعضهم: ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله: "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" وقالوا: لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف، لم يكن لقوله "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" وجه مفهوم، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره... عن قتادة، قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا"، هذا قول أهل الكتاب، فردّه الله عليهم فقال: "قُلِ اللّهُ أعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السّمَواتِ والأرْضِ"...
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره: ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله، ليتساءلوا بينهم، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر، ثلاث مئة سنين وتسع سنين، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه. وأما الذي ذُكر عن ابن مسعود أنه قرأ «وَقالُوا: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِم» وقول من قال ذلك من قول أهل الكتاب، وقد ردّ الله ذلك عليهم، فإن معناه في ذلك إن شاء الله؛ كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاث مئة سنين وتسع سنين، فردّ الله ذلك عليهم، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أووا إليه إلى أن بعثهم ليتساءلوا بينهم، ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا، لا يعلم بذلك غير الله، وغير من أعلمه الله ذلك.
فإن قال قائل: وما يدلّ على أن ذلك كذلك؟ قيل: الدالّ على ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء، فقال: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" ولم يضع دليلا على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان، لأن ذلك لو جاز جاز في كل أخباره، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله: "قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا" دليل على أن قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ" خبر منه عن قوم قالوه، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره، فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه: قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنزلنا هذه السورة، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلا على أن قوله: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ" خبر من الله عن قوم قالوه، وإذا لم يكن دليلا على ذلك، ولم يأت خبر بأن قوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) خبر من الله عن قوم قالوه، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها، صحّ ما قلنا، وفسد ما خالفه...
وقوله: "لَهُ غَيْبُ السّمَوَاتِ والأرْضِ" يقول تعالى ذكره: لله علم غيب السموات والأرض، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يخفى عليه شيء، يقول: فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السموات والأرض، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار.
وقوله: "أبْصرْ بِهِ وأسمِعْ" يقول: أبصر بالله وأسمع، وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه.
وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكلّ موجود، وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء...
وقوله: "ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ" يقول جلّ ثناؤه: ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم وليّ، يلي أمرهم وتدبيرهم، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون.
"وَلا يُشْرِكُ فِي حُكمِهِ أحَدا" يقول: ولا يجعل الله في قضائه، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وازدادوا تسعاً}: هو ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ولا يشرك في حكمه أحدا... ويحتمل أن يكون المعنى لا يجوز لحاكم أن يحكم إلا بما حكم الله به أو بما دل على حكم الله، وليس لأحد أن يحكم من قبل نفسه، فيكون شريكا لله في أمره وحكمه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما فرغ من هذه التربية في أثناء القصة وختمها بالترجية في الهداية للأرشد، وكان علم مدة لبثهم أدق وأخفى من علم عددهم، شرع في إكمالها مبيناً لهذا الأخفى، عاطفاً على قوله {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} أو على "فأووا إليه "الذي أرشد إلى تقديره قولهم: {فأووا إلى الكهف} كما مضى، المختوم بنشر الرحمة وتهيئة المرفق بعد قوله تعالى {إذ أوى الفتية} المختوم بقولهم {وهيئ لنا من أمرنا رشداً} فقال بياناً لإجمال {سنين عدداً} محققاً لقوله تعالى: {قل الله أعلم بما لبثوا}: {ولبثوا في كهفهم} نياماً {ثلاث} أي مدة ثلاث {مائة سنين} شمسية بحساب اليهود الآمرين بهذا السؤال، وعبر بلفظ السنة إشارة إلى ذمها بما وقع فيها من علو أهل الكفر وطغيانهم بما أوجب خوف الصديقين وهجرتهم وإن كان وقع فيها خصب في النبات وسعة في الرزق، وذلك يدل على استغراق الكفر لمدة نومهم.
ولما كان المباشرون للسؤال هم العرب قال: {وازدادوا تسعاً} أي من السنين القمرية إذا حسب الكل بحساب القمر...