{ 16 - 17 ْ } { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ْ }
يخبر تعالى أنه ما خلق السماوات والأرض عبثا ، ولا لعبا من غير فائدة ، بل خلقها بالحق وللحق ، ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم ، المدبر الحكيم ، الرحمن الرحيم ، الذي له الكمال كله ، والحمد كله ، والعزة كلها ، الصادق في قيله ، الصادقة رسله ، فيما تخبر عنه ، وأن القادر على خلقهما مع سعتهما وعظمهما ، قادر على إعادة الأجساد بعد موتها ، ليجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على قدرته ووحدانيته ، وعلى أن من فى السموات والأرض لا يستكبرون عن عبادته - تعالى - ، فقال - عز وجل - : { وَمَا خَلَقْنَا . . . } .
المعنى : إننا لم نخلق السموات والأرض وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله ، لم نخلق ذلك عبثا ، وإنما خلقنا هذه المخلوقات بحكمتنا السامية ، وقدرتنا النافذة ، ومشيئتنا التى لا يقف فى وجهها شىء .
هنا يربط السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها ، وسننها التي تجري عليها ، والتي تأخذ المكذبين بها . يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل ، اللذين يقوم بهما الكون كله ، ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه .
فإذا كان المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو ، غافلين عما في الأمر من حق وجد . وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب ، وعما ينتظر المكذبين المستهزئين . . فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل :
( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين . لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا . إن كنا فاعلين . بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، ولكم الويل مما تصفون ) . .
لقد خلق الله سبحانه هذا الكون لحكمة ، لا لعبا ولا لهوا . ودبره بحكمة ، لا جزافا ولا هوى ، وبالجد الذي خلق به السماء والأرض وما بينهما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وفرض الفرائض ، وشرع التكاليف . . فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون ، أصيل في تدبيره ، أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس ، أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات .
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق ، أي : بالعدل والقسط ، { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] ، وأنه لم يخلق ذلك عبثًا ولا لعبًا ، كما قال : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ{[19603]} وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ]
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما خلقنا السماء والأرض} يعني: السماوات السبع والأرضين السبع {وما بينهما} من الخلق {لاعبين}، يعني: عابثين لغير شيء، ولكن خلقناهما لأمر هو كائن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ومَا خَلَقْنَا السّماءَ والأرْض ومَا بَيْنَهُما" إلا حجة عليكم أيها الناس، ولتعتبروا بذلك كله، فتعلموا أن الذي دبره وخلقه لا يشبهه شيء، وأنه لا تكون الألوهة إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء غيره، ولم يَخْلق ذلك عبثا ولعبا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أخبر أنه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما لتكونا سماء وأرضا على ما هما عليه، ثم تفنيان وتبيدان، ولكن خلقهما لعاقبة قصدها، وهي أن يمتحن أهلها، لأن من عمل في الشاهد عملا، لا يقصد به عاقبة،يأمل ويرجو أمرا، فهو في عمله عابث لاهٍ، ولو كان على ما عند أولئك الكفرة بأن لا بعث، ولا حساب ولا جزاء ولا ثواب، لكان إنشاؤها وما بينهما باطلا لعبا كقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] صير عدم الرجوع إليه خلقهم شيئا باطلا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: وما سوّينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للهو واللعب، وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعدّ والمرافق التي لا تحصى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أي: ظن هؤلاء الذين نزل بهم ما نزل كما تظنون أنتم أيها الكفرة الآن، ففي الآية وعيد بهذا الوجه، والمعنى إنما خلقنا هذا كله ليُعتبر به ويُنظر فيه ويؤمن بالله بحسبه.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أي: ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذمهم باللعب وبين أنه يفعل في إهلاك الظالم وإنجاء العدل فعل الجاد بإحقاق الحق بالانتقام لأهله، وإزهاق الباطل باجتثاثه من أصله، فكان التقدير: وما ينبغي لنا أن نفعل غير ذلك من أفعال الحكمة العرية عن اللعب، فلم نخلق الناس عبثاً يعصوننا ولا يؤاخذون، عطف عليه قوله: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} غير مريدين بذلك تحقيق الحقائق وإبطال الأباطيل.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لعباً تعالى خالقهما وخالق كل شيء عنه وعن كل نقص علواً كبيراً، ومنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم جعل إظهار المعجزة على يديه من باب العبث واللعب، ففيه إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام وفساد تلك المطاعن كلها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هنا يربط السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها، وسننها التي تجري عليها، والتي تأخذ المكذبين بها. يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل اللذين يقوم بهما الكون كله، ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه. فإذا كان المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو، غافلين عما في الأمر من حق وجد. وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب، وعما ينتظر المكذبين المستهزئين.. فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين. لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا. إن كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون)... وبالجد الذي خلق به السماء والأرض وما بينهما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وفرض الفرائض، وشرع التكاليف.. فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون، أصيل في تدبيره، أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس، أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كثير في القرآن الاستدلال بإتقان نظام خلق السماوات والأرض وما بينهما على أن لله حكمة في خلق المخلوقات وخلق نُظمها وسُننها وفِطَرها، بحيث تكون أحوالها وآثارها وعلاقة بعضها ببعض متناسبة مُجارية لما تقتضيه الحكمة ولذلك قال تعالى في سورة [الحجر: 85] {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق}...وكثر أن ينبه القرآن العقول إلى الحكمة التي اقتضت المناسبة بين خلق ما في السماوات والأرض ملتبساً بالحق، وبين جزاء المكلفين على أعمالهم على القانون الذي أقامته الشرائع لهم في مختلف أجيالهم وعصورهم وبلدانهم إلى أن عَمّتهم الشريعة العامة الخاتمة شريعة الإسلام، وإلى الحكمة التي اقتضت تكوين حياة أبدية تلقى فيها النفوس جزاءَ ما قدمته في هذه الحياة الزائلة جزاء وفاقاً. فلذلك كثر أن تُعقب الآياتُ المبينة لما في الخلق من الحقّ بالآيات التي تذكُر الجزاء والحساب، والعكس، كقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} في آخر سورة [المؤمنين: 115]،...إلى غير هذه من الآيات. فكذلك هذه الآية عقب بها ذكر القوم المهلَكين، والمقصود من ذلك إيقاظ العقول إلى الاستدلال بما في خلق السماوات والأرض وما بينهما من دقائق المناسبات وإعطاء كلّ مخلوق ما به قِوامه، فإذا كانت تلك سنةَ الله في خلق العوالم ظَرفِها ومظروفها، استدل بذلك على أن تلك السنة لا تتخلف في ترتب المسببات على أسبابها فيما يأتيه جنس المكلفين من الأعمال، فإذا ما لاح لهم تخلف سبب عن سببه أيقنوا أنه تخلف مؤقت فإذا علمهم الله على لسان شرائعه بأنه ادخر الجزاء الكامل على الأعمال إلى يوم آخر آمنوا به، وإذا علّمهم أنهم لا يفوتون ذلك بالموت بل إن لهم حياةً آخِرة وأن الله باعثهم بعد الموت أيقنوا بها، وإذا علمهم أنه ربما عجل لهم بعض الجزاء في الحياة الدنيا أيقنوا به. ولذلك كثر تعقيب ذكر نظام خلق السماوات والأرض بذكر الجزاء الآجل والبعث وإهلاك بعض الأمم الظالمة، أو تعقيب ذكر البعث والجزاء الآجل والعاجل بذكر نظام خلق السماوات والأرض...
ولأجل هذا اطرد أوْ كادَ أن يطرد ذكر لفظ {وما بينهما} بعد ذكر خلق السماوات والأرض في مثل هذا المقام لأن تخصيص ما بينهما بالذكر يدل على الاهتمام به؛ لأن أشرفه هو نوع الإنسان المقصود بالعبرة والاستدلال وهو مناط التكليف. فليس بناء الكلام على أن يكون الخلق لعباً منظوراً فيه إلى رد اعتقاد معتقد ذلك، ولكنه بني على النفي أخذاً لهم بلازم غفلتهم عن دقائق حكمة الله بحيث كانوا كقائلين بكون هذا الصنع لعباً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} إنه النموذج الأمثل على الجد الذي لا جدّ مثله، وعلى الحكمة التي تمتد إلى كل خصوصيات الأشياء، وتنفذ في أعماقها، حتى تجد أن هناك خطةً دقيقةً لهندسة الكون من بدايته إلى نهايته، في استقراره واهتزازه، وفي ضعفه وقوته، وفي نموّه وتطوّره، في الظواهر الكونية والاجتماعية، في ارتفاع المجتمع وسقوطه، وفي الحالات النفسية التي تحكم حركة الإنسان الداخلية، وفي تأثّره بما حوله من الكائنات الحية والجامدة. وهكذا يجد المفكر الباحث في داخل وجدانه، إحساساً عميقاً بأن وراء كل شيء في الوجود سرّاً وحكمةً، ولذا فإن المشكلة المطروحة لديه ليست هي البحث عمّا إذا كانت الحياة خاضعةً لحكمة أو أنها مرتكزة على أساس الصدفة أو الفوضى، بل المشكلة هي في اكتشافه نوعية الحكمة، وطبيعة السرّ، بعد أن كان وجوده من بديهيات الكون، من ناحية المبدأ.