أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم ، آمنين من المؤمنين ، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم ، ولا ميثاق .
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر ، أو مقدر بأربعة أشهر فأقل ، أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر ، فإن الله يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة ، ولم يبدأ بنقض العهد .
ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم ، أنهم وإن كانوا آمنين ، فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه ، وأنه من استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه ، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام ، إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له .
وقوله - تعالى - { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ . . . } بيان للمهلة التي منحها - سبحانه - للمشركين ليدبروا فيها أمرهم .
والسياحة في الأصل : جريان الماء وانبساطه على موجب طبيعته ، ثم استعملت في الضرب في الأرض والاتساع في السير والتجوال . يقال : ساح فلان في الأرض سيحا وسياحة وسيوحا إذا تنقل بين أرجائها كما يشاء .
والخطاب للمؤمنين على تقدير القول . أى : فقولوا أيها المؤمنون للمشركين سيحوا في الأرض أربعة أشهر .
ويجوز أن يكون الخطاب للمشركين أنفسهم الالتفات من الغيبة إلى الضحور ، لقصد تهيئة خطابهم بالوعيد المذكور بعد ذلك في قوله - - سبحانه - { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } .
والمقصد بالأمر في قوله : { فَسِيحُواْ } الإِباحة والإِعلام بحصول الأمان لهم فىت لك المدة من أن يقتلوا أو يقاتلوا أو يعتدى عليهم . . .
والمعنى : قولوا أيها المسلمون للمشركين - بعد هذه البراءة منهم ، سيحوا في الأرض ، أى : سيروا فيها مقبلين ومدبرين حيث شئتم وأنتم آمنون في هذه المدة .
وفى التعبير بقوله { فَسِيحُواْ } من الدلالة على كمال التوسعة ، ما ليس في قوله { سيروا } أو ما يشبهه ، لأن لفظ السياحة يدل الا الاتساع في السير والبعد عن المدن ، وعن موضع العمارة .
والحكمة في إعطائهم هذه المدة تمكينهم من النظر في أمر أنفسهم حتى يختاروا ما فيه مصلحتهم ، ويعلموا أنهم ليس أمامهم بعد هذه المدة إلا الإِسلام أو السيف ، ولكى لا نسب إلى المسلمين الغدر وبنذ العهد دون إعلام أو إنذار .
وهذا من سمو تعاليم الإِسلام . تلك التعاليم التي لم تبح لأتباعها أن يأخذوا أعدى أعدائكم على غرة ، بل منحت هؤلاء الأعداء مهلة كافية يدبرون فيها أمر أنفسهم وهم آمنون من أن يتعرض لهم أحد من المسلمين بأذى .
ومتى كان ذلك ؟ كان ذلك في الوقت الذي نقض فيه المشركون عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم ، وفى الوقت الذي أرجف فيه المرجفون أن المسلمين لن يعودوا من تبوك سالمين ، بل إن الروم سيأخذونهم أسرى ، وفى الوقت الذي كانت المجتمعات فيه يغزو بعضها بعضا بدون إنذار أو إعلام . .
فإن قيل : وما الحكمة في تقدير هذه المهلة بأربعة أشهر ؟
فالجواب - كما يقول الجمل - اقتصر على الأربعة - هنا لقوة المسلمين إذ ذاك ، بخلاف صلح الحديبية فإنه كان لمدة عشرة سنين لضعف المسلمين إذا ذاك ، والحاصل أن المقرر في الفروع أنه إذا كان بالمسلمين ضعف جاز عقد الهدنة عشر سنين فأقل ، وإذا لم يكن بهم ضعف لم تجز الزيادة على أربعة أشهر .
وقال بعض العلماء : ولعل الحكة في تقدير تلك المدة بأربعة أشهر ، أنها هي المدة التي كانت تكفى - إذ ذاك بحسب ما يألفون - لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض ، والتقلب في شبه الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه في تكوين الرأى الأخير ، وفيه فوق ذلك مسايرة للوضع الإلهى في جعل الأشهر الحرم من شهور السنة أربعة .
على أنا نجد في القرآن جعل الأربعة أمدا في غير هذا فمدة إيلاء الرجل من زوجه أربعة أشهر - وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر .
ولعل ذلك - وراء ما يعلم الله - أنها المدة التي تكفى بحسب طبيعة الإِنسان لتقليب وجوه النظر فيما يحتاج إلى النظر ، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيه إلى ما يقصد فيه .
ويؤخذ من تقرير الهدنة للأعداء في هذا المقام تقرر مبدأ الهدنة والصلح في الإِسلام ، طلبها العدو أم تقدم بها المسلمون ، وأصل ذلك مع هدنة المشركين هذه قوله - تعالى - في سورة الأنفال { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإِمام وأرباب الشورى المقررة في قوله - تعالى - { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } وقد اختلف المفسرون في ابتداء هذه الأشهر الأربعة فقال مجاهد والسدى وغيرهما : كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر من السنة التاسعة ونهايتها في العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة ، وذلك لأن المشركين قد أعلموا بهذه الملهلة يوم النحر من السنة التاسعة على لسان على بن أبى طالب - كما سبق أن بينا .
وقيل كان ابتداء هذه الأشهر الأربعة يوم النحر لعشر من ذى القعدة من السنة التاسعة ونهايتها في اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من السنة العاشرة ، وذلك لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسئ الذي ابتدعه المشركون .
والرأى الأول أرجح وعليه الأكثرون ، لأن معظم الآثار تؤيده . وكذلك اختلف المفسرون اختلافاً كبيرا فيمن تنطبق عليهم هذه المهلة ، فقال مجاهد ، هذا تأجيل للمشركين مطلقاً ، فمن كان مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، ومن كان عهده بغير أجل حد بها . ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ، ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن .
وقال آخرون : كانت هذه الأربعة الأشهر مهلة لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت هذها لمدة لقوله - تعالى - بعد ذلك : { فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } .
وهذا القول قد اختاره ابن جرير وغيره ، فقد قال ابن جرير - بعد أن ذكر عدة اقوال في ذلك :
" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأجل الذي جعله الله إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته ، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ، ولم يظاهروا عليه ، فإن الله - تعالى - أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } ، ثم قال : وبعد ففى الأخبار المتظاهرة " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه حين بعث عليا ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادى به فيهم " ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته " وهو أوضح دليل على صحة ما قلنا .
وذلك أن الله لم يأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل ، فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه ، وأنه لما أجل أربعةأشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل ، أو كان له عهد إلى أجل غير محدود ، فأما من كان أجل عهده محدودا ، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بإتام عهده إلى غاية اجله مأمورا ، وبذلك بعث مناديه في أهل الموسم من العرب . .
والذى يبدو لنا بعد مراجعة الأقوال المتعددة في شأن من تنطبق عليهم هذه المهلة من المشركين - أن ما اختاره ابن جرير هو خير الأقوال وأقواها ، لأن النصوص من الكتاب والسنة تؤيده .
ومن أراد معرفة هذه الأقوال بالتفصيل فليراجع ما كتبه المفسرون في ذلك .
ثم بين - سبحانه - أن هذا الإِمهال للمشركين لن ينجيهم من إنزال العقوبة بهم متى استمروا على كفرهم فقال - تعالى - : { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين } .
أى : واعلموا - أيها المشركون - أنكم بسياحتكم في الأرض خلال تلك المهلة لن تعجزوا الله - تعالى - في طلبكم ، فأنتم حيثنا كنتم تحت سلطانه وقدرته ، واعلموا كذلك أنه - سبحانه - مذل للكافرين ، في الدنيا بالقتل والأسر ، وفى الآخرة بالعذاب المهين .
فالآية الكريمة قد ذيلت بما يزلزل قلوب المشركين بالحقيقة الواقعة ، وهى أن ذلك الإِمهال لهم ، وتلك السياحة في الأرض منهم ، كل هذا لن يجعلهم في مأمن من عقاب الله ، ومن إنزال الهزيمة بهم ، لأنهم في قبضته .
ومها أعدوا خلال تلك المهلة من عدد وعدد لقتال المؤمنين ، فإن ذلك لن ينفعهم ، لأن سنته - سبحانه - قد اقتضت أن يجعل النصر والفوز للمؤمنين والخزى والسوء على الكافرين .
قال الفخر الرازى ما ملخصه ، وقوله : { واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } . المقصود منه : أنى أمهلتكم - أيها المشكرون - وأطلقت لكم السياحة في الأرض - فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات ، فإنكم لا تعجزون الله بل هو الذي يعجزكم ، لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملكه وتحت سلطانه .
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .
فهذا بيان للمهلة التي أجل الله المشركين إليها : أربعة أشهر يسيرون فيها ويتنقلون ويتاجرون ويصفون حساباتهم ، ويعدّلون أوضاعهم . . آمنين . . لا يؤخذون على غرة وهم آمنون إلى عهودهم . حتى أولئك الذين نقضوا عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم ، وعند أول توقع بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لن ينقلبوا إلى أهليهم من تبوك ؛ وأن الروم سيأخذونهم أسرى ! كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون ! ومتى كان ذلك ؟ كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض ؛ وبعد سلسلة طويلة من التجارب التي تقطع بأن المشركين لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا . . وفي أي عصر تاريخي ؟ في العصر الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانوناً إلا قانون الغابة ؛ ولم يكن بين المجتمعات المختلفة إلا القدرة على الغزو أو العجز عنه ! بلا إنذار ولا إخطار ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة ! . ولكن الإسلام هو الإسلام منذ ذلك الزمان . . ذلك أنه منهج الله الذي لا علاقة له بالزمان في أصوله ومبادئه . فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره ؛ ولكنه هو الذي يرقي البشرية ويطورها حول محوره وداخل إطاره ؛ بينما هو يواجه واقعها المتطور المتغير - بتأثيره - بوسائل متجددة ومكافئة لما يطرأ عليها في أثناء تحركه بها قدماً من تطور وتغير .
ومع المهلة التي يعطيها للمشركين يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة ؛ ويوقظهم إلى هذه الحقيقة ليفتحوا عيونهم عليها . إنهم بسياحتهم في الأرض لن يعجزوا الله في الطلب ! ولن يفلتوا منه بالهرب ! ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره : أن يخزيهم ويفضحهم ويذلهم :
{ واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين } . .
وإلى أين يفلتون ويهربون فيعجزون الله عن طلبهم والإتيان بهم ؛ وهم في قبضته - سبحانه - والأرض كلها في قبضته كذلك ؟ ! وقد قدر وقرر أن يذلهم فيخزيهم ولا راد لقضائه ؟ !